الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

محمد سالم ابن جد ظرافات وظرفاء (93)


ظرافات وظرفاء (93)
في منتصف عام 1999 كنت يوما مع الشيخ حمدا ابن التاه في منزله أيام كان يقيم جنوب قيادة أركان الحرس، وكان معي زائرون آخرون، وأثناء الحديث دخل رجل أعرفه وأعرف أهله فسلم ثم نظر إلى الشيخ نظرة تشي بالاستعجال فسأله الشيخ: أأنت من أهل القرآن؟ فأجابه على طريقة أهل التواضع: أتمنى ذلك، لكن
الشيخ أعاد السؤال إلى أن قال الرجل: نعم. عندها قال الشيخ: سورة مريم، سورة مريم.. فَسُرَّ الرجل سرورا لا مزيد عليه وأكَبَّ على ساق الشيخ يدلكها ويدني وجهه إليها وهو يكاد يرقص طربا.
رأيت كل هذا فأمررت سورة مريم بخاطري مرتين فلم أجد فيها ما يناسب أن يكون المقصود إلا آيتين:
1. {فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا}.
2. {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا}.
قلت في نفسي: إذا كان المقصود الأولى فالشيخ يقول له: لن أجيبك الآن بحضور هؤلاء، وعليه سينتظره حتى يفرغ له، ولكن ما الذي في هذا مما يستدعي ما أرى من السرور!
أما إذا كان الثانية فهو يدفع طعنا في شرف أو نسب؛ وهذا ما يستدعي السرور.
لم تطل حيرتي فقد نهض الرجل وودع الشيخ وجلساءه وهو لا يستطيع إخفاء سروره بهذه الإيماءة المطلسمة.
سألت بعض الأقارب المطلعين عما يعلمون عن طعن في عرض فلان أو أحد من قومه أو نسبهم فلم أنل جوابا، ومر شهر أو شهران ونسيت الموضوع إلى أن علمت على حين غفلة أن القوم خاضوا نزاعا مريرا مع رجل رد نسبهم إلى أبوين غير محترمين ففهمت المقصود بامرئ السوء والبغي!
ومرة ذكرت هذا على وجه الإشادة بذكاء الشيخ لصديق لي تختلف منظومته السلوكية عن منظومتي - لتباين الخلفية والمنشأ- فقال: هل أخبرتهما بأنك فهمت ما دار بينهما؟ قلت: كلا، قال: لماذا؟ قلت: لأني كالمتجسس أولا، ولأن هذا إفشاء لسرهما ثانيا، ولأن فيه فخرا لا يحسن بي ثالثا، ولأنه سيدعو إلى التحرز مني رابعا. فلم يقتنع بشيء مما ذكرته ولم ير فيه أكثر من "تبديل" بعض الموريتانيين.
بيد أن ما أثار استغرابي كان اكتفاء الرجل بهذه الإيماءة التي لا يمكن أن يحتج بها، وانصرافه دون وثيقة مادية بمضمونها، وربما كان السبب شدة تأثيرها فيه.
عرفت الشيخ حمدا بصفة شخصية عام 1982 وكان مديرا للتوجيه الإسلامي وقتها، وقد أكبرت أخلاقه العالية، وكان أول ما رأيت منها أن لقيه رجل ذات يوم وهو خارج من مكتبه فاستمهله ليلقي عليه حاجته، فلما تكلم إذا هو يتأتئ فعاد إلى مكتبه وجلس بهدوء وانشراح حتى انتهى الرجل بعد جهد فأجابه إجابة شافية وخرج.

ليست هناك تعليقات :