الثلاثاء، 31 مارس 2015

محمد سالم ابن جد ‏ ظرافات وظرفاء


ظرافات وظرفاء (58)
ترددت أواخر سنة 1998 وبداية تاليتها على قصر العدل لمتابعة عصابة من فرسان "دخل ش" سبق ذكرها، وعلى مستشفى الأمراض العقلية والعصبية لزيارة بعض نزلاء
قسم الأمراض العصبية به. ولفت انتباهي أن أغلب مرتكبي الجرائم البشعة شباب، وأن أغلب المجانين شباب كذلك. ويطول الحديث في عرض الأسباب والدوافع؛ على أنها غير مجهولة عموما.
في تلك الفترة وجدت إدارة المستشفى المذكور غيرت تعاملها مع المجانين فأصبحت تعاملهم معاملة الأسرى بعد ما كانت تعاملهم معاملة المرضى. ورأيت يوما شابا أوثق إلى سارية بسلسة ثبتت في ساقه بقفل، وقد رمى ثيابه، وآثر السلسلة بالسراويل لما لم تسمح له بالمزيد، ووقف ينشد ما يبدو أنه شعر لم أسمعه قبله ولا بعده، يقول فيه:
فيا قوم ما لي ** عن الموت سال؟!
كان ينشد باهتياج وطرب في نفس الوقت!
وفي قسم الأمراض العصبية لقيت مرة مجنونا اختطف رضيعا من إحدى نزيلاته وكانت الأم وأخرى معها مكروبتين بينما كان المجنون ذو القامة الفارعة يسب الطفل ويؤنبه، وقد رفع به يديه استعدادا لرميه فوق الغرفة! لم أجد وقتا للتفكير وإنما وقفت إلى جنب المجنون استعدادا لما يمليه الموقف من إنقاذ الطفل الذي كان ينظر إلى الأرض من ارتفاع مترين دون أن يفهم الخطر الذي وقع فيه.
شاركت المجنون تأنيب الطفل وسبه حتى أنس بي فأخذته من يديه موهما إياه أني سأرميه نيابة عنه، وسرت به إلى حيث ينأى الخطر عنه مواصلا شتمه وتأنيبه، ثم أعدته إلى أمه التي علمت من بعض نزلاء قسمها أنها أوثقته إلى السرير ومنعته الخروج بعد ذلك تجنبا لخطر مشابه.
كما علمت أن المشرفين على جناح الأمراض العقلية يعقدون ضحوة كل أربعاء منتدى للنزلاء من المجانين (لأسباب نفسية مفهومة) ليبوح كل بما يريد من خطأ وصواب، ثم يطلبون آراء البقية فيما أدلى به فيدلي كل بما رآه في الموضوع أو خارجه.
أحدهم عزا داءه العقلي إلى المخدرات، فسأل المشرف الباقين هل يعرفون المخدرات، فرد أحدهم بأنه طالما باعها في المتاجر، ورد آخر "ألا ذي هي ال اتعملونَّ هون" (لعله يعني المهدئات).
وآخر اشتكى من خطورة ابنه على زوجه التي لا أدري هل هي أم الابن أم لا!
ذكرني ذلك الجو بحوادث جرى أحدها خريف عام 1987 بينما كنت أمر من حيث أصبح الحزام الأخضر المقام حول تگند الجديدة التي كانت يومها قرية صغيرة تهددها الرمال؛ لذا أقيمت حظائر من اليتوع (الفرنان) حول الكثبان حتى جرفتها الرياح فصار موضع الكثيب حفرة لا يرى منها غير السماء أحيانا؛ هنالك غرست فسائل الأشجار التي أصبحت غابة كثيفة حول ما أصبح "مدينة".
في أحد تلك الأيام قدمت إلى الجديدة من إحدى القرى المتناثرة حولها فذهبت إلى قرية أخرى لعيادة مريض. كان العرق غزيرا والجو خانقا، وكنت في طور النقاهة من داء قريب، وكانت الطريق تمر من إحدى الحفر الموصوفة وأثناء عبوري منها رأيت رجلا ضخم العظام جالسا في الشمس جنب الطريق، وحين حاذيته رفع وجهه إلي وقال: "أيوه.. السلام عليكم!" ومد يده، فرددت عليه السلام وعدلت إليه خجلا من تصرفي غير الأخلاقي، وحين صافحته وقف فاستبانت الحقيقة..
للورطة بقية.

ليست هناك تعليقات :