الثلاثاء، 23 أبريل 2013

الإيرافوبيا والهولوكوست الجديد


  • مقال رائع يضع النقاط علي الحروف تشخيصا وتقيما تحية للاستاذ...سعدبوه ولد الشيخ سيدي محمد علي هذا المقال...............الإيرافوبيا والهولوكوست الجديد..سعدبوه ولد الشيخ سيدي محمد

    لا توجد مغامرة هذه الأيام أكبر من الخوض في الضجيج الصاخب حول العبودية ومظاهر الاستعباد في البلد، ولا توجد حماقة أكبر من إبداء الرأي فيه؛ إذ لا تكاد تنبس ببنت شفة تحوم حول الموضوع حتى تلتهمك قطعان من وحوش البشر الضارية مردوا على السباب وأدمنوا هتك الأعراض.. لا يراعون في أحد إلا ولا ذمة، ولا يجدون لهم رادعا من خلق ولا قانون.

    وبالرغم من معرفتي المسبقة لذلك؛ فقد قررت خوض هذه المغامرة وارتكاب تلك الحماقة؛ متحملا مسؤوليتي الكاملة فيما ينجر عن ذلك من تبعات وما يترتب عليه من آثار. ولعل من حق القارئ علي أن أنبه في البداية إلى أن حديثي عن واقع العبودية ومظاهر الاستعباد في البلد ليس حديث فقيه يفتي ويؤصل، ولا هو حديث باحث اجتماعي يفسر ويحلل، كما أنه ليس حديث منافق يتملق للسادة، ولا محاب يريد أن يستغل طيبة الأرقاء.. وإنما هو محاولة تسجيل موقف في موضوع بات التخلف عن تحديد المواقف فيه خيانة للأمة وهروبا من مسؤولية يحتمها الدين ويفرضها الولاء للوطن. كما أعتذر للقارئ مسبقا عما قد أتسبب فيه من جرح لمشاعر البعض جراء الخوض في مستنقع من مفردات اللغة الآسنة أمجه وأأنف عن استعماله وأعلم أن عين القارئ الكريم تمجه وتزدريه؛ لكني لا أجد منه مفرا وأنا أخوض في هذا المستنقع الآسن وأتلمس طريقي وسط هذا الوحل المقرف. لقد أصبحت محاربة الاستعباد في هذا البلد تماما كمحاربة الأمية: سلعة رديئة يتاجر بها البعض استدرارا للمال الحرام، أو تقربا من موائد السلاطين والحكام.. ضجيج يصم الآذان، وشواء آدمي يزكم الأنوف كل يوم بين منكر يحاول ستر الشمس بغربال يعميه الولاء للماضي عن رؤية الحاضر ويمنعه فكره المتحجر المشبع بالحمية الجاهلية من الإحساس بمعاناة الآخرين، ومراب لا يهتم من القضية بغير القشور؛ همه الأوحد ما يجنيه على رقاب وظهور أولئك الأرقاء من الأموال، يتسلح بما يتقنه من قاموس السباب والفجور؛ متظاهرا بالسعي الجاد إلى الحرية و الانعتاق، دون أن يسلك من مسالك ذلك إلا ما يفتح له أبواب الشهرة والارتزاق. لهؤلاء وأولئك أكتب اليوم إنصافا للسادة، وانتصارا للأرقاء، وإسهاما في تنوير الرأي العام بمخاطر المشكلة وضرورات البحث عن الحلول.. فقد بلغ السيل الزبى، ولم يعد صراخ هؤلاء وأولئك محتملا بعدما أوشك أن يغرق سفينة الوطن ويعرض السلم الأهلي لمخاطر الفتنة والاقتتال. 1ـ في الأصل لعل أكبر خطر يتهدد سلمنا الاجتماعي اليوم هو إنكار وجود ممارسات استرقاقية قائمة، وآثار أخرى اختفت دون أن تأخذ معها آثارها ومخلفاتها؛ إذ ليس من مصلحة أحد كائنا من كان أن ينكر واقعا ماثلا لا تخطئه العيون، تعج به قرانا ومدننا وأريافنا في كل ناحية من ربوع هذا الوطن. صحيح أن ممارسة الاستعباد بأشكاله القديمة اختفت أو تكاد في المدن الكبرى على الأقل؛ لكن ما يجهله المنكرون وتجهله معهم أنظمة الحكم المتعاقبة هو أن الخضوع لنير الاستعباد عقودا طويلة لا تمحو آثاره كلمة جوفاء لا تحمل من الحرية إلا حروفها، ولا تزيل من مظاهر الاستعباد إلا الجوانب الإيجابية المتمثلة في واقع العلاقات الحميمية التي كانت سائدة بين الطبقات والتي ـ على الرغم من قيامها على الغبن ـ أبقت على لحمة ساهمت في خلق إمكانية للتعايش طيلة عقود من الزمن. والحق أن معالجة هذه المأساة الإنسانية كان من المفروض أن تكون مهمة الجيل الأول الذي وضع اللبنات الأولى لقيام الدولة الحديثة؛ إذ كان من واجبه أن يستشعر خطر نقل التركيبة الطبقية للبيئة البدوية إلى مجتمع المدينة، ويعالج المسألة من أول يوم ارتفع فيه علم الاستقلال. هكذا إذن قامت الدولة الحديثة على أساس مائل ظل يطلب على مر العصور من يصلحه حتى لا تتهاوى أركان الدولة الفتية على ساكنتها ويضيع حلم الأمة في الأمن والرقي والازدهار. غير أن الأجيال المتلاحقة هي الأخرى تقاعست عن جهل (حتى لا نقول عن قصد) عن القيام بأي مجهود يذكر لاستئصال الورم القابع في أعماق الجسم قبل أن يستفحل، وعن إطفاء الجذوة المتقدة في الهشيم قبل أن تشعل حريقا يقضي على الأخضر واليابس. لقد اكتفت حركات الوعي السياسي والطلابي الناشطة في العقد الأول من عمر الدولة باتخاذ مواقف باهتة من القضية هي أشبه بالمجاملات منها بالمواقف المبدئية، ولم يتبن أي منها بشكل جدي قضية رفض الاستعباد؛ بل لم يعرف التاريخ الوطني على الإطلاق مناضلا واحدا من مجتمع البيظان بمفهومه الضيق رفع هذا الشعار وتحمل الأذى في سبيل تحقيقه. وفي أواخر العقد الثاني من عمر الدولة ارتفع من رحم معاناة شريحة الأرقاء صوت يطالب برفع هذه المعاناة ويطمح إلى تنسم عبير الحرية تمثل في ظهور حركة الحر، وكان منتظرا من حركات الوعي السياسي والطلابي أن تتلقفها في الأحضان لتحوز فضل اللحاق بعد أن فاتها شرف البداية؛ لكنها لم تفعل وتركت حركة الحر تواجه مصيرها منفردة حاملة مشعل الدعوة إلى إنهاء نظام الاستعباد تقارع في سبيل تحقيقه الأنظمة المتعاقبة وتتقاذفها السجون. لقد كان المشهد إذن معيبا من البداية ولا يزال؛ فضمن الصف الأول من قادة الحركة المنافحة عن الأرقاء الساعية إلى القضاء على الاستعباد، لم يكن هنالك رجل واحد من فئة السادة (إن صح التعبير)، وبدا كما لو أن هناك إجماع من أفراد هذه الفئة على عدم المشاركة في السعي إلى القضاء على نظام الاستعباد؛ وكأنها مستفيدة منه في حين أنها تصطلي بناره ويتهددها منه في المستقبل ما يتهدد فئة الأرقاء أو يزيد. وحين أدرك النظام العسكري أن لا بديل عن التخلي عن السلطة، وابتكر لبوسا جديدا لنظام ظاهره المدنية وباطنه من خلفه الخوذة والكرباج، بدا كما لو أنها سانحة جديدة لإعادة التأسيس وتصحيح الأخطاء؛ غير أن الطبقة السياسية بدت غير مهتمة بما سوى الحكم، ودخلت حركة الحر هذا المعمعان فانقسمت على نفسها مرات عدة، وتلوث بعض قادتها بداء الشغف إلى السلطة ووضع أغلبهم عباءة النضال؛ بل وتحول البعض الآخر إلى أسياد يجرون وراءهم فيالق من العبيد. في خضم هذه الأحداث التي رافقت ما سمي "عهدا ديمقراطيا"؛ لبست حركة الحر لبوس الحزبية من خلال حزب العمل من أجل التغيير الذي مثل تحالفا بينها وبين حركة المشعل الإفريقي ذات النزعة العنصرية، وهو تحالف ما كان له أن يسهم في تحقيق هدف القضاء على العبودية؛ لأن الطرف الزنجي في هذا التحالف حاول أن يبعد حركة الحر عن محيطها الطبيعي ويقودها إلى تبني العنف والغلو فاصطدما مع النظام من أول وهلة ودخلا في معارك كر وفر انتهت بحل الحزب. وقد جرت تجربة العمل من أجل التغيير على الحركة مزيدا من الانقسامات وأورثت زعماءها مزيدا من المرونة مع النظام قادهم إلى البحث عن شريك جديد من محيطهم الطبيعي هذه المرة، وكان لهم ذلك في التحالف الشعبي التقدمي الذي جمع لأول مرة قيادات من فئتي "لحراطين" و"البيظان" على قدم المساواة في مشروع سياسي واحد؛ غير أن هذا الحزب هو الآخر ـ وبالرغم من تبنيه برامج وسياسات تهدف لمحاربة الاستعبادـ لم يستطع أن يعطي القضية زخمها الذي تستحق؛ ربما لأنه كان أشبه بزواج متعة أرادت منه الحركة الحصول على منبر مشروع بعد أن انتزع منها النظام منبرها الأول؛ وأراد الناصريون جمهورا افتقدوه بفعل تراجع المد القومي وعجزهم عن ملائمة منطلقاتهم الفكرية مع متغيرات الواقع ومستجدات الأمور. وبعد سقوط نظام ولد الطايع ودخول الحر في أول انتخابات تعددية بعده حققت فيها نتائج خولتها الدخول في تحالف انتخابي أوصلها في نهاية المطاف إلى رئاسة السلطة التشريعية, بدا وكأنها الفرصة الأفضل لاتخاذ خطوات جريئة وجادة للقضاء على الظاهرة بفعل تعاون يسوغه التحالف القائم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ إلا أن نتائج هذا التحالف جاءت هي الأخرى مخيبة للاَمال؛ إذ جاءت قراراته باهتة تافهة لا تزيل من واقع الاستعباد إلا استخدام اللفظ. وهكذا ظل الورم يستفحل ويتعاظم، وتحولت الجذوة المتقدة في الهشيم إلى نار توشك أن تلتهم الجميع دون أن يعبأ زعماء الفئتين بذلك ودون أن يحركوا ساكنا لإخماد الفتيل قبل أن تلتهم ألسنة النيران "اَدوابه" وقرى ومدن الوطن. 2ـ في التبعات وفي بلد صغير ضعيف ومجتمع هش مفتوح يتربص به الأعداء من كل حدب وصوب، وعلى حين غفلة من الجميع؛ أمسكت مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية "إيرا" بشهاب من الهشيم المستعر وأخذت تشعل به عن قصد أو عن غير قصد أطرافا من عباءة الوطن الغارق في جهله وتخلفه وتكالب نخبه على السلطة والمال والجاه.. على يد "إيرا" تحولت قضية محاربة الاستعباد إلى "هوليكوست" جديد يؤمن بالخرافة ويحياها ويرفض الواقع ويتجنبه: كل من ينطق كلمة العبودية (ولو في حديث عابر) تلتهمه سياط القوم، ولا ينكر أحد فعلهم إلا افترسوه؛ فلم يعد الأمر يتعلق بإرث من مخلفات الزمن السحيق عانت منه مختلف الأمم والشعوب، بل صار خصومة مع التاريخ؛ مع الدين؛ مع الأوهام.. صار الفقه المالكي وأعلامه هم الأعداء، وصارت مظاهر الاستعباد مجرد حالات تتصيدها الحركة من حين لآخرفي أحد أحياء المدن الكبيرة! لا يستطيع أحد أن ينكر على برام ورفاقه أن يشكوا أمام الشرطة وأمام القضاء حالة استعباد يكتشفونها، لكن لا أحد يستطيع أن ينصفهم في أن يعتدوا على الجاني وأهله وعشيرته بالضرب والشتيمة والإيذاء. لا يستطيع أحد أن ينكر على برام ورفاقه أن يطالبوا بتفعيل القوانين المجرمة للاستعباد وتشريع قوانين أخرى إن دعت الضرورة؛ لكن لا أحد يستطيع أن يعذرهم عندما يعتدون على إمام فوق منبره بالإهانة والسب والتعنيف! إن من السخرية الفجة أن يتهم الفقه المالكي في جريمة هو غائب أصلا عن مسرحها زمانا ومكانا؛ إذ لا أحد يجهل أن القانون الوحيد المطبق في هذا البلد هو أهواء السلاطين ورغبات الحكام، وأن الأنظمة المتعاقبة منذ عقود لم تأخذ من الفقه بل من الدين كله إلا ما تبرر به خطايا الحكام وخطيئاتهم، ولعل كاتب الضبط أو عون القضاء سابقا والحقوقي لاحقا برام ولد الداه هو أكبر العارفين بذلك، ولعله يذكر هو ورفاقه كيف تحول يوم خطئه وخطيئته إلى "كافر" تعهد الحاكم بحده قبل المحكوم؛ وكيف خرج بعد ذلك مبرءا من كل عيب دون أن ينبس أحد ببنت شفة! وإن لنا أن نستغرب فعلا كيف ترصد عدسات "إيرا" لقطات استعباد فريدة في هذه المدينة أو تلك، ثم تغض الطرف عن آلاف اللقطات؛ بل أفلام ومسلسلات من حالات الاستعباد الشاخصة الماثلة في اَدوابه وقرى وأرياف البلد.. فهل انحسرت حالات الاستعباد في البلد إلى هذا الحد؛ أم أن ما يهم برام ورفاقه مجرد خرجات إعلامية تصور لتبرر بندا للصرف على طريقة الإدارة الموريتانية.!! وفي ظل "الإيرافوبيا" التي ينشرها برام ورفاقه بتمالئ غريب ومريب مع السلطات؛ أصبح الناس يعيشون في خوف دائم، وتضررت القضية كثيرا بفعل انتشار ثقافة الخوف بين الفئات، كل ذلك وسط صمت أكثر غرابة من طرف النخبة السياسية من الفئتين، حتى بات البلد في حالة من التوجس من الحاضر وانعدام الثقة في المستقبل؛ توشك أن تدفعه إلى الانهيار. 3ـ في تصور الحل هناك حكمة صينية تقول "إن أول خطوات العلاج هي الاعتراف بالمرض"، ونحن لا نعتقد أننا نملك حلا سحريا لهذا المرض المزمن، ولا نعتقد أن أحدا غيرنا يملكه؛ لكننا نرى أن هنالك خطوات ضرورية يمكن أن تهيأ أرضية للحل إن توفرت، وهذه الخطوات هي: 1ـ أن يتداعى أطر ومثقفو وأئمة "لحراطين" إلى مؤتمر جامع يسعون من خلاله إلى تحديد هويتهم أولا؛ ومطالبهم ورؤيتهم للحل ثانيا.. ونحن نعتقد أن مثل هذا المؤتمر سيقود لا محالة إلى أنه لا هوية لهذه الشريحة إلا الهوية العربية الإسلامية، وهذا يعني القناعة بأن فئة "البيظان" شريك لا عدو، حتى إن وقع منها ظلم سابق أو لاحق. 2ـ أن تتداعى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني إلى مؤتمر جامع تتبنى فيه عهدا وطنيا للقضاء على الظاهرة وللحفاظ على لحمة المجتمع، وأن تقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه المساس بسلامة وأمن المجتمع. 3ـ أن تعمد الدولة بوصفها ممثلة لكل فئات المجتمع إلى تحقيق المطالب التي تتمخض عن مؤتمر تحديد الهوية، وأن تقدم اعتذارا باسم الأمة عن فترات الاستعباد الماضية، ولا غضاضة في ذلك؛ فالأرقاء القدامى أولى بالاعتذار الذي قدمه رئيس الجمهورية قبل سنتين في كهيدي، وأحق بأن تؤدى صلاة الغائب على ضحاياهم وهم كثر. بهذه الخطوات ـ على ما نرى ـ تتهيأ الأرضية لمصالحة تاريخية تستحق أن يبذل من أجلها كل غال ونفيس لإعادة البناء على أسس سليمة تضمن الحرية والمساواة للجميع وتغلق الباب أمام دعاة الفتنة وتجار الحروب. سعد بوه الشيخ سيدي محمد

ليست هناك تعليقات :