ظرافات وظرفاء (62)
في أحد صباحات شتاء 1992 نهضت من بو احديده، ركبت في سيارة أحد الأقارب إلى قلب العاصمة ثم اتجهت إلى محطة تفرغ زينه المجاورة للسوق المركزي، كنت أعلم أن لدي من النقود ما يكفي
لمعاملاتي المحتملة شراء كانت أم إيجارا، وقصر ذهني عن التفاصيل فألفيت الشيطان كامنا فيها كالعادة.استقللت سيارة صحبة آخرين، وأمام مبنى التلفزيون كنت آخر ركابها نزولا، أولجت يدي في جيبي فجاءت بخمسمائة أوقية، دفعتها للسائق الذي نظر إلي بحنق وابتسم ابتسامة صفراء ورد إلي نقودي قائلا: "أيْوَه.. ذيك أراهي مرشات!" سألته باستغراب وأنا أبحث في محتوى جيبي عن ورقة أصغر: "ما هي؟" فقال وهو يكاد يصطلمني: "تعرفها.. تعرف أنك راكب أياك تلحگ ما خلصت، وارانك الحگت مانك امخلص أكافيك افتصل امعايَ.." وكاد يدفعني إلى الأرض فنزلت وأنا في قمة الاستغراب والمفاجأة بينما انطلق الرجل وهو يتكلم بما منعني صوت المحرك من سماعه.
أتبعته عيني لمعرفة رقم سيارته الذي ما زلت أحفظه إلى اليوم رغم أن ذاكرتي لا تعي الأرقام إلا بصعوبة، وقد جر ذلك لي بعض ما لا أرغب فيه.
تأزمت مما جرى فقد كانت أول مرة أتهم فيها بمثل هذا (وأرجو أن تكون الأخيرة) فأيام نشأتي كنت إذا رأيت الوالدة – رحمها الله- تستعد للخروج خرجت قبلها تجنبا لمجرد سؤالي هل رأيت شيئا مما يفقد داخل البيت دون ريبة، ثم ها أنا في شبابي أرمى بالتحايل! وعلام تحايلت؟ على عشرين أوقية لرجل لا أعرفه!
مكثت حوالي خمسة شهور وأنا أسعى إلى لقاء الرجل لأداء حقه إليه؛ تارة أتذكره بعيدا عن محطته، وتارة أنساه قريبا منها، وربما تذكرته قريبا منها فأعرّج عليها باحثا عنه (لم تكن قد أصابتني حساسية من تلك البقعة آن ذاك). وكانت أمنيتي أن يكون صاحبي مالك تلك السيارة أو يظل سائقا لها حتى ألقاه إذا كان يعمل فيها بأجرة.
استمر الأمر كذلك إلى الصيف، حين لقيته عصرا في السيارة عينها وقد رفع غطاء محركها وفتح مبردها وبدأ يصب الماء فيه. سلمت عليه وذكرته بالصباح السابق ذكره حتى ظننت أنه تذكره فأخرجت العشرين ومددتها إليه قائلا إن ما صدر منه يوم ذاك كان في غير محله؛ فمن لا يعرف في الناس سوءا لا ينبغي أن يحملهم محمل السوء ما لم يجد ما يؤيد ظنه. وإذا كنت متحايلا فعلا فما قال لا يكفي وكان عليه أن يزيدني بما يردعني، وإذا كنت بريئا فلا داعي للقول القبيح، فإذا كان - وهو ناقل- لا يتوفر على قطع معدنية أو أوراق صغيرة القيمة فزبونه أحرى بالعذر إذا لم تكن لديه، أو كانت العشرون مهمة إلى ذلك الحد فالعوراء لن تنقص الرزية على كل حال، وإنما العكس هو الصحيح.
كان قد مد يده إلى القطعة النقدية وعندما بدأت كلامي سدلها وأطرق خجلا (أو هكذا ظننت) فوضعتها على مقدم سيارته بين يديه وانصرفت مرتاحا للعبء المزاح عن قلبي.
بعد ما زادت سنو عمري فهمت أني لم أكن مسؤولا حين ركبت سيارة في الصباح دون تفريق نقودي أو إشعار السائق بحقيقتها؛ بل دون تفكير في ماهيتها أصلا! ولكن الرجل تجاوزني فحكم علي سلفا دون تردد بأسوأ ما يمكن أن يحكم به على شخص عادي. وتعلمت من ذلك الرجل ما أفادني باقي حياتي؛ فلم أركب سيارة أجرة إلا بنقود مجزأة، وعند التعذر أشعر المعني بها وأنا في الشارع.
لا تقتصر الإفادة على الأخيار فقط؛ بل يفيد الأشرار أيضا، إذا كان المرء منتبها لما يجري حوله.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق