الأحد، 24 مايو 2015

محمد سالم ابن جد ذكريات مبعثرة (66)

ذكريات مبعثرة (66)
في الظهيرة وصلنا القوارب وقد خلت المكاتب والسوق من العاملين والمراجعين والمتسوقين انسجاما مع نظام العمل المتبع في تلك الأيام (الاستراحة من منتصف النهار إلى الثالثة مساء) ومع جو المكان الذي دخل في فترة الحر.
تركني
عمي جنب مجموعة من الحمالين اغتنمت فسحة القيلولة للعب الورق وترك معي حقيبته وصينيتي شاي معدنيتين اصطحبهما هدية لبعض أصدقائه السنغاليين، وكان ذلك أول ظهور تلك الأواني (اطوابل المعدن) بعد ما ظل النحاس يتصدر مجالس الشاي فترة طويلة. وذهب إلى بعض شأنه وإن ظل يتفقدني من وقت لآخر وفي أحد تفقداته اصطحبني إلى مطعم هناك فتناولت أول غداء لي بالمطاعم فيما أظن.
حوالي الثالثة أخذ عمي الحقيبة فأخذت الصينيتين وتبعته إلى جنوب الغرب. كنت أعلم أن دون السنغال نهرا يُعبر، وبه يقترن أحد أسمائه (گبلت لبحر) وكثيرا ما سمعت ببعض حوادثه؛ ولكني لم أكن أعرف أين يكون ولا أستعجل الوصول إليه، وفجأة وجدتني على ضفته بعد إجراءات عبور بسيطة لم تشملني.
كانت المعدّية أو الْعَبَّارة (تسمى شعبيا "الباگ" و"تنبربزّه") جاثمة كالمبنى ولم أدر وظيفتها في ذلك المساء، بينما كانت زوارق المواطنين السنغاليين تجوب النهر جيئة وذهابا، بعضها بمحركات وبعضها بالمجاديف، وكانت أعواد الخيزران تعمل صالحا في إيصالها إلى البر وإبعادها منه حسب الحاجة.
أما نصيبنا فكان زورقا أزور وصلنا إليه بالتواثب كالمعز بين صخرات رصت بشكل غير مضبوط التباعد ولم يراع فيه اختلاف المسافرين، وبعد ما شحن حتى كاد الماء يلتئم فوقه، انطلق صوب العدوة القصوى وهناك كان الحساب يسيرا لم يدم أكثر من تسجيل الأسماء ثم خرجنا إلى محطة النقل التي كانت قريبة من المعبر، وبعد قليل انطلقنا في بيجو 504 عائلية.
واصلت السيارة نهبها للطريق حتى مرت من اندر (صار الطريق السيار الآن ينكب عن معظم المدن السنغالية التي رأيتها) وبعد ما قربنا من اللوگه حدث اهتزاز غريب في ميمنة الجانب الخلفي من سيارتنا، تلاه صرير منكر وظلعان واهتزاز شديد ورعب طغى على الركاب إلى حد الاستعداد للقفز من السيارة.. لقد تحررت العجلة من مدارها وانطلقت أمام السيارة مسافة ثم خفت سرعتها ثم عرجت عن الطريق جنوبا واستقرت في مزرعة هناك!
نشأ عن احتكاك الحديد بالأسفلت صوت يصعب تحمله واهتزاز في السيارة وعرج منذر بانقلابها، وكان السائق السنعالي المسن رابط الجأش يلوك الكولا (گوره) ويطمئن الركاب دون أن يلتفت إليهم، ويطلب منهم البقاء في أماكنهم،. أما أنا وعمي وثالث معنا فلم تكن بأيدينا حيلة؛ لقد كنا في مؤخرتها وكان بيننا وبين الباب صف من الركاب.
بعد حوالي 500 متر تمكن السائق من إيقاف السيارة بهدوء فنزلنا جميعا إلى الأرض وانطلق – هو أو غيره- إلى العجلة الشاردة فأعادها، وأظنه نزع من مثبتات العجلات الأخرى (écroux) ما ثبتها به، ثم ركبنا لنصل بعد قليل إلى اللوگه، وفي الطريق من المحطة إلى المكان المقصود لاحظت غياب العربية عن واجهات الأماكن وانفراد الفرنسية بها. كانت هذه أولى ملاحظاتي.

ليست هناك تعليقات :