الثلاثاء، 19 مايو 2015

محمد سالم ابن جد ذكريات مبعثرة (65)


ذكريات مبعثرة (65)
في طفولتي أصيبت قدماي بداء الشُّقاق (التفلاح) ولم أكن أجرؤ في سَوْراته على الوطء بقدمِي كاملة كما يفعل الناس، حتى تعودت المشي على صدرَيْ قدميّ.
ومطلع
عام 1977 أراد عم لي اصطحابي إلى السنغال (حيث يعمل تاجرا) لعلاجي، وآزره كل أفراد العائلة والأقارب؛ إما صراحة وإما ضمنا، ولكن الوالدة – رحمها الله- أمسكت العصا من الوسط ، فهي لا يمكن أن تكون ضد علاجي، ولا أن تضن بي عن عمي لو أراد إطعام الذئاب بي، وها قد اجتمع علاجي وطلبه! ولكنها أيضا لا تستطيع تحمل فراقي فكيف إذا كان بذهابي إلى "الخارج"!
وبعد مماطلة وتسويف من طرفها قابلهما إصرار من طرف العم (كل ذلك بشكل ناعم كما يمليه العرف الاجتماعي) وافقت أخيرا على سفري (وكنا بالبادية) فرافقتنا إلى العاصمة مودعة ولسان حالها يقول:
تمتع من حبيبك كل وقت ** فما تدري الفراق متى يكون!
وبعد ليال من الانتظار كلمتها كبرى أخواتي – رحمها الله- بما ملخصه أن لا ضرورة لبقائها بالعاصمة، فالعم - حفظه الله- قال إنه لا يدري متى الانطلاق، ولها من شؤونها ما لا يسمح لها بالجلوس في المدينة إلى أجل غير مسمى.
كانت أمي تقبل للأخت المذكورة ما لا تقبله لباقينا، لذا غادرت العاصمة في نفس اليوم؛ وعند غروب الشمس مر العم بي في سيارة منطلقة إلى الجنوب فأدركت أن مؤامرة حيكت لصرف أمي حين حان سفري الذي لا تتمناه، وأحزنني ذلك فترة، ولكني منذ سنوات بدأت أدرك الحكمة فيه؛ فقد كانا أبعد نظرا مني حين حجبا عنها ما يسوؤها.
جلست في حجر عمي في مقدمة شاحنة بيجو 404 لأحد الأقارب (رحمه الله) وانطلقنا. وقطعنا الطريق على إيقاع دعاباتهما، وكانا صديقين حميمين ومن "عصر" واحد، وأذكر أن عمي أنشد قول محمد بن محمد سالم رحمه الله:
أتذري عينه فضض الجمان ** غراما من تذكره المغاني..
وبينما كان يمر في القصيدة طربا كنت أبكي شجى وحزنا بصمت!
عندما وصلنا "الججايه" على مشارف تگند الجديدة، أنزلاني وأمراني بالاتجاه إلى نار بالقرب شمال الطريق وذهبا إلى الجديدة لحط حمولة السيارة من الركاب والأمتعة ثم العودة. وبمجرد اجتيازي الطريق هاجمني كلب شرس "كأنه له عندي دماء الطوائل" فصحت: "يالناس أحكمُ عني الكلبْ" وكنت قد علمت أن إضافة الكلب إلى المخاطب سوء أدب فعدلت عن "كلبكم" رغم حرج الموقف.
بمجرد ما فُهْتُ بالاستغاثة سمعتُ ابنةَ عمتي – حرم رب السيارة، رحمهما الله- تقسم بالله إنه لصوت فلان ابن فلان (تعنيني) وهبت لنجدتي ولم تنقذني من غضبة الكلب الهوجاء إلا بإدارة ملحفتها من ورائي، وسارت بي {وكفى الله المؤمنين القتال}.
بتنا هناك بسلام وفي الصباح انحدرنا إلى الجديدة التي لم تكن يومها أكثر من متاجر ومساكن معدودة رسم الطريق امتدادها وأساءت ألسنة الرمال إلى أطرافها. حجز عمي مكانا في مقدمة السيارة المزمع انطلاقها إلى القوارب وبقينا بانتظار اكتمال النصاب. وكان جلوسنا تحت ظل مقر فرع حزب الشعب الموريتاني هناك (حسب ما كُتب على المكان). وبعد ما ارتفع النهار انطلقت السيارة، ولا أدري أتم ركابها أم يئس صاحبها من ذلك.
في الطريق توقفنا لإركاب امرأة جاءت مشيعة بعدد من النساء، وكانت أحاديثهن كلها باللهجة البربرية (كلام ازناگه) منهن من توصيها، ومن تودعها، ومن تدعو لها، ومن تخمن وقت وصولها إلى القوارب، ومن تنبهها – عند صعودها- إلى ثوبها كي لا يخرقه شيء ما.. كل ذلك باللسان البربري!
كنت ملما بهذا اللسان كما أسلفتُ (ولا أدري أما زلت كذلك) ولكن لم أكن أعلم أن من "البيضان" من لا يستخدم الحسانية في شؤونه اليومية؛ لذا كان هذا المشهد لي عجبا.
بعد انتصاف النهار دخلنا مدينة القوارب التي "جاد" عليها المستعمر الفرنسي باسم باسم روصو (Rosso) تقديرا للكاتب والفيلسوف السويسري جان جاك روسو الذي كانت آراؤه عاملا مهما في تشكيل الأحداث السياسية المؤدية إلى الثورة الفرنسية، وسارت الإدارة الموريتانية على ذات النهج إلى اليوم؛ وإن لم يعن روصو شيئا للسكان، كما لم يكن "القديس" لويس في تلك الأيام يعني شيئا لسكان اندر بالسنغال المجاور!

ليست هناك تعليقات :