المقامة السفرية (4)
.. ونزلت له عن المقدمة، وأصررت على أن أقدمه، ولم تقل نفسي: لمه؟ ثم صعدت إلى أعلاها، ولم أجد سوى أقصاها، والبرد يلفح من علاها.
ولو وُضعت نارُ الجحيم بموضعي ** لكانت كمثل الثلج.. بل هي أبرد!
ولو لم أكن في فعل خير حللته ** دعوت ثبورا من ضنى حيث أقعد.
وحشرت نفسي بين الجلاس، تركلني الركبة والمداس، وأخشى على ناظري من أصابع الناس، وتولى أنفي فك الارتباط، بين روائح الأفواه والآباط..
في غابة من بني الإنسان شابكها ** ضر الطريق وضيق المركب النكد
وما زلت بين باك وشاك، يدفعني هذا ويصفعني ذاك، حتى ضيق المد علينا الممر، فعدلنا عن البحر إلى البر، ولما بلغنا انويدر، في نصف ليلتنا الأويخر، نزلنا للعَشاء، ولصلاة العِشاء، وكان بي من الصداع، ما رشْدَ نفسي أضاع، فاخترت الرابي، من بين أصحابي لكونه بديلي، لعله يرثي لي.
(أولى البرية طرا أن تواسيه ** عند السرور الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ** من كان يألفهم في المنزل الخشن).
وكان بي رجاء، أن يوقظني عند نضج العَشاء، ونمت بين الرجال، مندسا في الرمال.
ولم أشعر بباقي الشأن حتى ** تنادوا للترحل بالصباح!
فبادرت إلى الصلاة، والجوع قد بلغ بي مداه، ألتفت على أثري، خشية سقوط مئزري،
وتهادت على رمال قفار ** ثم منها إلى رمال قفار
لم تزل في ارتجاج وميل ** وانعطاف وصعدة وانحدار
حتى إذا علت الرؤوس، شمس تبذ الشموس، من حر يومنا العبوس..
يتواصل بإذن الله.