الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

حسن احريمو بــالخــبــز وحـــده... يــحــيــا الإنسان

بــالخــبــز وحـــده... يــحــيــا الإنسان

رأيت اليوم صورة على إحدى الصفحات الموريتانية مكتوباً عليها: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، وهي عبارة أعرف أنها تنسب فيما ينسب للمسيح عليه السلام في إنجيل متى.. ولكن لفت نظري خاصة السياق الذي أوردت فيه على الصفحة حيث أرفقت مع صورة أخت من شقائقنا الكريمات تبيع الخضار وتقرأ صحيفة، وهذا ما سأعلق عليه! وقد كتبتُ للإخوة في صفحتهم، على وجه الملاطفة، تعليقاً بالعامية قلت فيه: «الخبز اللا من أحسن بعد اللي يحيا به الإنسان. وخاصة إلين إعود معه إدام معقول»! وكان بودي أن أكتب ما هو أكثر. بالله عليكم، ماذا ينقص الخبز؟ أليس حلواً؟ أليس مغذياً؟ أليس نعمة من نعم الله، سبحانه وتعالى، لا يجوز حرمان خلقه منها، ويجب على الحكومة توفيرها لجميع المواطنين بأسعار زهيدة، لأن فيها شرط الحياة نفسه؟ أليس الإنسان، قبل أن يكون كائناً عاقلاً أو ناطقاً، أو حالماً، أو رومانسياً، أو حتى سفسطياً إيديولوجياً شعوذياً، أو موالياً للنظام.. هو قبل كل هذا كائن حي... بمعنى أن له متطلبات حيوية كالغذاء، والهواء، والماء، والكساء، لا يجوز حرمانه منها، بأي شكل، ولا في أية شريعة، ولا تحت أية ذريعة؟ أليس بالخبر تحفظ النفوس؟ أوليس حفظ النفس في مقدمة الضروريات والكليات الخمس في الشريعة! هل هذا هو الفقه الجديد للثورة، إنجيل المرحلة... إنجيل المراحل.. والمراجل.. تجفيف الريق والحلوق والحقوق.. أن نعمل على قتل إرادة الخبز، إرادة الحياة لدى الناس، ونميت شهواتهم ونستثمر في ثقافة التزهد والتنسك والحرمان؟ هل هذا هو ما نريد الآن من شبابنا، بدل أن يطالبوا بحقوق الفقراء يسعون لتزهيدهم وتنفيرهم من هذه الحقوق، باستدعاء عبارات من سياق بعيد، في غاية البعد؟
نعم يا ثوارنا الرومانسيين، بالخبز وحده يحيا الإنسان الآن، وبالخبز وقليل من الأسودين يعيش.. وبالخبز والملح والماء يحيا.. ويحيا.. ويسعد.. وبالخبز وقليل من المرق يكون أسعد مخلوق على وجه الأرض.. دعونا من المثاليات، والسفسطيات الثوروية العدمية.
ألم تقرؤوا كل تلك الأشعار والملاحم والأشواق الإنسانية الخالدة عن الخبز... ألا تعرفون أن الخبز هو من سطّر وسجّل جميع صفحات التاريخ الإنساني. نعم الخبز بالخاء والزاء المعجمتين وليس الحبر بالحاء والراء المهملتين... ليس ثمة أبداً خطأ مطبعي... وإن شئتم زيدوا على ذلك من الشعر بيتين... فالخبز وليس الحبر هو قمة الشعرية والروماسية، والمثالية، والثورية، والرمزية، والسريالية.. إلى آخر القافية. والخبز هو من كتب اسمه خالداً في صفحات التاريخ... ثم، ألا تعرفون، يا متنقّصي الخبز، أن في تاريخنا الثقافي العربي أيضاً شاعراً عظيماً يدعى الخباز البلدي*؟ أم ستقنعوننا -لا قدر الله- بأنكم أكثر ثورية من محمود دوريش صاحب «قصيدة الخبز»؟ أم ستتهمونه هو أيضاً بالحسية والرجعية والواقعية القذرة؟ ألم ينحز في قصيدته تلك للخبز ضد الحبر وللعصيدة ضد القصيدة؟ وهو القائل::
«لم يكن للحبر في يوم من الأيّام.. هذا الطعم.. هذا الدم.. هذا الملمس الهامس.. هذا الهاجس الكونيّ.. هذا الصوت هذا الوقت.. هذا اللون هذا الفنّ.. هذا الاندفاع البشريّ . السرّ. هذا السّحر.. هذا الانتقال الفذ.. من كهف البدايات».. ليقترب من لحظة البوح الخبزي أكثر: «ويستولي على سر العناصر.. كان رسّاما وثائر.. كان يرسم.. وطناً... وطناً مزدحما بالناس و الصفصاف و الحرب.. وموج البحر و العمال والباعة و الريف.. و يرسم.. مهرجان الأرض والإنسان.. خبزاً ساخناً عند الصباح.. كانت الأرض رغيفاً.. كانت الشمس غزالة.. كان إبراهيم شعباً في الرغيف.. و هو الآن نهائيّ... نهائي.. دمه في خبزه.. خبزه في دمه.. الآن.. تمام السادسة».
ثم، أليس محمود درويش نفسه، الشاعر، الإنسان، الفنان، الاسم الحركي للثورة والإنسانية والرومانسية، هو نفسه القائل:
إنّا نحبُّ الوردَ، لكنّا نحبُّ القمحَ أكثرْ..
ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهرْ..
فاحموا سنابلكم من الأعصار بالصدر المسَمَّرْ..
هاتوا السياج من الصدور..
من الصدور؛ فكيف يكسرْ؟

---------
* محمد بن أحمد بن حمدان، المعروف بالخباز البلدي.
شاعر، ينسب إلى «بـلــد» وهي مدينة بالجزيرة التي منها الموصل، قال صاحب اليتيمة: كان أمياً وكان حافظاً للقرآن الكريم ويقتبس منه.
قال الثعالبي عنه: ومن عجيب شأنه أنه كان أمياً وشعره كله ملح وتحف، وغرر وظرف، ولا تخلو مقطوعة له من معنى حسن أو مثل سائر.

ليست هناك تعليقات :