يوم مع الإمام الشيخ بداه / محمد سالم ولد الشيخ
رمضان 1989 م ، شهر حمل نذر الفتنة و التصفية ، شهر شهد الأحداث بين موريتانيا و السنغال ، كان شهرا قائظا و كانت نواكشوط تكشر عن أنيابها ، حيث غدت جماعات ربطت مصيرها و مصير الوطن بإيذاء أخوة في الدين و العرق و الإسلام تتزعم عصابات السطو و السرقة .. كان موقف الشيخ بداه – و هذا لقبه الذي أحبذه - يهمني جدا من الأحداث و لذلك حرصت على صلاة الجمعة 28 أبريل مع الإمام بداه – هذا اللقب الذي ثبت له و ارتحل معه و الذي شغله بجدارة – كانت الخطبة مشحونة بالنهي عن الفتنة و مناشدة الجهات المسؤولة بالقيام بدورها ، و التنبيه على حقوق المسلم و حرماته ، بعد التصعيد الخطير أيام 24 و 25 في نواكشوط و رغم ما وصلت له الحالة من خطورة و من سهولة أخذ الشخص بجريرة الآخرين ، فقد رأيت أشخاصا من إخوتنا الزنوج يصلون تلك الجمعة مع الإمام بداه مع ما قد يكلفهم ذلك من تصفية أو إيذاء جسدي و معنوي .
كان الإمام بداه كما عهدته غاضبا من إراقة دم المسلمين ، لا يحابي فيه ، و لم يسعه أن يسكت كما وسع البعض ، بل صدع بالحق و قال ما أوجب الله عليه قوله ، و شفى غليلنا في إنكار ما كان الكل ينكره و لا يستطيع دفعه .
أما الشيخ بداه فكان يقيم درسا بعد صلاة الجمعة و حتى صلاة العصر ، و في ذلك اليوم خرج أولا للصلاة على جنازة ، و عاد ليبدأ درسه بالفقه و في شروط ثبوت رؤية الشهر ، وصل إلى قول خليل ( و إن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا ) فقال : كان على خليل أن لا يفتح مجالا لتكذيب الشهود لأن ذلك التكذيب سيجر إلى أمور أخرى و العادة لا عبرة لها في ثبوت الرؤية ، صال و جال في الفقه ، فكان درسه من هنا و هناك أسئلة عن اللحية و تحريم حلاقتها كما ألح عليه أحد السائلين فرد عليه : تريدني أن أحرمها ( أمابي ) بالحسانية ، من صلى خلف حالقها يعيد في الوقت كما رأى البعض ، و أنا شخصيا لا أنظر إليه لأنه يشبه المرأة عندي و لكني لا يمكن أن أحرم حلاقتها فلم يثبت لي شيء في ذلك ، من نفس الجهة من الصفوف و بتوجيه من بعض الوجوه الناشطة في الدعوة و السياسة آنذاك يسأله صبي عن موقف ، من يفتي الناس في مذهب و هو يتعبد الله على مذهب آخر ، فهم الإشارة ، لم تغضبه قال للصبي ( على الذين يعطونك أسئلة لتطرحها أن يجدوا في أنفسهم الشجاعة لطرحها مباشرة ، أما أنا فأقسم بالله أني أعرف المذاهب الأربعة بأصولها و فروعها ، و لكن اقسم بالله أني لا أفتيكم إلا بمشهور المذهب المالكي ) .
تقدمت من الحلقة لأسئله حول بعض الملاحظات التي سمعت البعض يتحدث عنها تلك الآونة حول كتابه " تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر "و خصوصا كتاب أبا ولد الحسين الذي سماه ( المنصة ) ، كنت أستذكر دروس أستاذي محمد فال ولد أباه التي كان يقدم لنا في السنة الثالثة من قسم الفلسفة عن الأشاعرة ، كنت كذلك استجمع حافظتي للحفظ ما سيرد به الشيخ بداه ، سألته أولا عن كلام الله هل فيه حقيقة و مجاز أم يحمل كله على الحقيقة ، بادر الحضور قائلا : هذا مهم جدا دعوه يقترب مني ، جلست عند قدميه – كان يجلس على كرسي ما زال القائمون على المسجد يحتفظون به _ سألني عن قبيلتي فذكرتها له ، فبسط قدميه و أمرني أن أدعك له قدميه ، قائلا درست في حيكم سنتين على شيخ و ذكره لي ، و كنت قبل ذلك سمعت من بعض الأكابر عن أيام دراسته و تتلمذه و جذبه في الحي .
سألني قرأت كتابه المذكور فأجبته بالإيجاب ، فقال العقيدة هي أهم علم عندي فقد حرصت على أن أقدم لكم العقيدة الصحيحة أما الفقه فالكل يعرفه و يمكن أن يفيدكم فيه . أما عن سؤالك فقد انقسم الأصوليون حوله فمنهم من رأى أنه فيه الحقيقة و المجاز و ذلك منشأ التأويل و صرف اللفظ عن ظاهره ، و منهم من أعتبره كله حقيقة و أمره كما هو و إن أفادت بعض عباراته تشبيها أدى ببعض هذا الاتجاه إلى التجسيم ، و قد لخص الشيخ هذا الموقف في كتابه قائلا : (إن السلامة في إتباع هدي النبي صلى الله عليه و سلم وما كان عليه أهل القرون الثلاثة المفضلة ، و أن أصول التأويل كلها راجعة إلى الجهمية و المعتزلة و الخوارج ، و أن ما يلزم المتكلمون أهل السنة و الجماعة في صفات الاستواء و النزول و اليد و غيرها ، فإن أهل السنة يلزمونهم به في الصفات التي يثبتونها ، لأن جميع صفات الباري عز و جل من باب واحد ، فكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم لا يختشى منه تشبيه ولا تكييف ، و يمر كما جاء مع اعتقاد التنزيه لله عز و جل عن التشبيه ..)
سألته أيضا من نرجح في العقيدة أحمد المقري – صاحب إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة - أم ابن تيمية ، و كأنه تفطن إلى أني أريد رأيه في ابن تيمية فرد علي بالحسانية ( ابن تيمية كنت غلطان فاخبارو ) لم يجتمع لأحد قبله ما اجتمع له من إجماع ستين عالما على أنه شيخ للإسلام ناهيك عن علمه و جهاده ، و لم أكن سمعت أبياته التي يقول فيه :
تقي الدين أحمد لا يبارى ** بميادين العلوم و لا يمارى
تقي ماجد برّ كريم ** يدور مع الأدلة حيث دارا
برئت إلى المهيمن من سماعي ** مقالات تقال له جهارا
أما الأشاعرة كما أردف قائلا فلست منهم و لست أول من انتقدهم فآب ولد اخطور قال إنهم مشبه و مجسمة في نفس الوقت ، و بالنسبة لمن استطاع أن يأخذ عقيدته من النصوص فليفعل ، فاستدركت قائلا بالحسانية _ و اشياه الدية من المسلمين _ أي العاميين الذين لا يستطيعون أخذ عقيدتهم من الكتاب و السنة ، فأجابني كونوا أشاعرة كما تريدون .
ما زلت حتى الآن أكتشف في كل مرة شيئا جديدا من تجربتي ذلك اليوم مع الشيخ بداه ، فقد رباني و علمني و وجهني و أدبني ، و كل هذه فنون قل أن يجمعها أحد في نفس الوقت ، و شاهدت منه شجاعة العلماء و قولهم للحق مهما كلفهم ذلك ، و إن كنت حضرت دروسا أخرى للإمام استفدت فيها الكثير و علمني فيها الكثير فعلم الشيخ بداه كما كنت أصفه لأصدقائي هو التلخيص ، فعندما تهتم بموضوع و تدرسه في عدة كتب و تحمله إلى بداه يقدم لك تلخيصا لكل ما قرأت .
رحم الله شيخنا و معلمنا و مفتينا و موجهنا و مضحكنا فقد كان في ذلك اليوم يجلس بالقرب منه رجل من قبيلة معروفة كان ينسبه لها ، و كان في كل مرة يرفع صوته بالتكبير عندما يسمع إجابات جميلة من الشيخ ، و مرة رفع صوته كثيرا ، و لم يكن الشيح بداه منتبها فأزعجه بذلك فرد عليه بالحسانية ( يخوي اخلغتني يا صيد لغلال ، أنا مستخول من تاشدبيت ن و أراني لك أجذب منك ,, و الله ما جايبني هون كون الجذب ) فضحكنا جميعا ، و لم يفهم الكثير منا إشاراته .. فرحمة الله علينا و عليه .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق