الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

الصم الصورة....يوميات شخص عادي جدا (الحلقة الأخيرة )





الثلاثاء، 22 أكتوبر، 2013

يوميات شخص عادي جدا (الحلقة الأخيرة )

في منتصف العام 2007 اتخذت قرارا جريئا حسب بعض أصدقائي، أحمق طائشا حسب البعض الآخر، ولكنه في حقيقة الأمر لم يكن إلا مجرد قرار عادي لمن عاش طفولة كطفولتي، ولمن كان أيضا يلهث خلف حلم كبير كما هو الحال بالنسبة لي.

في منتصف ذلك العام حصلتُ على قرض بقيمة مليون وستمائة ألف أوقية عن طريق الوكالة الوطنية لتشغيل ودمج الشباب، وذلك بصفتي حامل شهادة عاطل عن العمل. ولقد حصلت على ذلك القرض بعد أن اقتربتُ من إكمال عقدي الثاني مع البطالة، وبعد أن أصبح عمري يقترب من الأربعين عاما.
ولكم أن تتصوروا ما الذي سيفعله عاطل عن العمل بهذا المبلغ "الضخم" الذي حصل عليه بعد عقدين من البحث عن وظيفة، وبعد أن اقترب عمره من الأربعين، لكم أن تتصوروا ما شئتم، ولكن الشيء المؤكد هو أنكم لن تستطيعوا أن تتخيلوا ما الذي فعله بالضبط هذا العاطل عن العمل الذي تقرؤون يومياته بذلك المبلغ "الضخم".
لن تتصوروا إطلاقا بأني قد قررت عند استلامي للقرض بأن أتجاهل ظروفي الخاصة، وما أقساها من ظروف، وبأن أفتتح بذلك القرض مركزا خيريا تكون أولى مهامه تشغيل ودمج الفقراء في الحياة النشطة!! وكأنه يوجد بالمدينة من هو أكثر مني حاجة إلى الدمج في الحياة النشطة.
لن يكون بمقدوركم أن تتخيلوا ما الذي فعلتُه بالمليون والستمائة ألف أوقية، وقد لا تصدقونني إذا قلت لكم بأني أنفقتها على عمل خيري، ولكم العذر في ذلك، فأنتم وحتى الآن لم تتعرفوا على حقيقة هذا الشخص العادي جدا الذي تقرؤون سيرته. وكيف لكم أن تتعرفوا على حقيقته ما دام كل ما سُرد عليكم في الحلقات الثلاث عشر الماضية من أحداث ومواقف لم يكن إلا مجرد قشور متناثرة طفت في وقت من الأوقات على سطح حياتي، أنا الذي ما زلت، وكما قلتُ لكم سابقا، أعيش متنقلا بين فواصل التاريخ، وهوامش الجغرافيا.
والآن، ولكي تفهموا ذلك التصرف بالذات، سأبتعد بكم قليلا عن القشور، لأكشف لكم عن بعض الأسرار في حياتي، والتي ما كان لي أن أكشفها لكم إلا في الجزء الثاني من هذه اليوميات. فالاتفاق مع كاتب هذه السيرة كان يلزمنا، أنا وهو، بأن لا نتجاوز السطح، وأن لا نغوص في الأعماق، إلا عند البدء في كتابة الجزء الثاني من هذه اليوميات.
لقد سمحتُ لكاتب هذه اليوميات بأن يتجاوز بنود الاتفاق المبرم بيننا، وبأن يكشف لكم شيئا قليلا من أسرار طفولتي، وذلك بالقدر الذي يمكنكم من فهم هذه اللقطة من حياتي والمتعلقة بإنفاق قرض الوكالة على عمل خيري. وهذه اللقطة وحتى وإن بدت لكم غريبة شيئا ما، إلا أنها مع ذلك كانت هي التصرف السليم والمنطقي الذي كان يمكن أن نتوقعه ممن تربى في أحضان مؤسسة خيرية.
لم يكن بإمكاني وأنا ابن "الليعة" كما كنتُ ألقبها، أو "أم طريعة" كما كانت تعرف في مدينة لعيون، أن أنفق أول مبلغ كبير أستلمه، إلا في عمل خيري.
كانت "أم أطريعة" رحمها الله تعالى : عجوزا، فقيرة، أمية، لا تستطيع أن تعد إلى العشرين، ولكنها مع ذلك كانت مؤسسة خيرية فريدة من نوعها، ولقد وصلت شهرتها إلى خارج مدينة لعيون.
ومن الأمثلة على ذلك أن سيدة فقيرة من مدينة كيفة، مرضت مرضا شديدا، وقررت أن تذهب إلى مستشفى لعيون للعلاج، ولكنها كانت تقول لزوارها بأنها لا تعرف أحدا في مدينة لعيون تقيم عنده خلال فترة العلاج. فما كان من أحد الذين شكت لهم تلك المريضة، إلا أن استغرب من قولها بأنها لا تعرف في مدينة لعيون منزلا تقيم فيه خلال رحلة العلاج. ولم يكن من ذلك الرجل إلا أن قال للمريضة متسائلا ومستغربا في نفس الوقت : كيف تقولين بأنك لا تعرفين أحدا تقيمين عنده، وعريش"أم أطريعة" لا يزال يوجد في وسط المدينة؟
وفعلا فقد كان عريش "أم أطريعة" مكان استقبال دائم للضيوف، وكذلك للمرضى، خاصة في موسم الخريف الذي تنتشر فيه حمى الملاريا.
كانت "أم أطريعة" رحمها الله تعالى مؤسسة خيرية لا تتوقف عن العطاء، وكانت تلك المؤسسة تعمل وفق فلسفة بسيطة جدا، فهي كانت على استعداد دائم لأن تقدم كل الطعام الذي تأتي به ابنتها من العمل في خدمة البيوت لضيوفها، هذا إذا كان الضيف من أولئك الضيوف الفقراء جدا. أما إذا كان الضيف يملك ما يشتري به شيئا قليلا من اللحم والأرز فإن "أم أطريعة" في هذه الحالة، تتكفل بإعداد الطعام، وبتقديمه لذلك الضيف، ولغيره من الضيوف الآخرين ممن لا يملكون ما ينفقونه، أو ممن لا يريدون أن ينفقوا شيئا.
كانت "أم أطريعة" رحمها الله تعالى من شريحة لحراطين، وكانت في الأصل إذا ما تحدثنا بلغة بائسة تتبع لأسرتنا، ومع ذلك فلا أذكر بأنها، لاهي، ولا ابنتها قد اشتغلت عندنا في المنزل. كنا نحن عندما نبحث عن خادم للمنزل نبحث عنه من خارج عائلة "أم أطريعة"، أما هي فقد كانت تشغل ابنتها وحفيداتها خادمات بأجر عند عائلات أخرى.
ولقد كان والدي رحمه الله ينتقد بعض ممارسات الاسترقاق، وهذا مما كان يستغربه البعض من رجل مثله، عاش في حقبة تاريخية انتشرت فيها ممارسة العبودية.
كانت العلاقة التي تربطنا بأم أطريعة علاقة قوية جدا، وكانت هي تسكن في وسط المدينة، قرب السوق المركزي، أما نحن فقد كنا نسكن في حي العرقوب الذي يقع في أقصى جنوب المدينة. وكان عريش "أم أطريعة" يقع تقريبا في الوسط، بين الثانوية التي تقع في أقصى الشمال، وحي العرقوب الذي يقع في أقصى الجنوب.
وكان الموقع الاستراتيجي للعريش يغريني دائما بالتوقف عنده، عندما أصبحت أدرس في الثانوية، خاصة في أيام الصيف الحارة. كما كان كرم "أم طريعة" وحنانها يغريانني أيضا بالتوقف هناك، حتى وإن كنتُ في كثير من الأحيان لا أتمكن من ابتلاع أكثر من لقمة أو لقمتين، وذلك بسبب تعدد الأيادي التي كانت تمتد إلى وجبة الغداء، تلك الوجبة التي قد تكون في بعض الأحيان، مجرد وجبة لشخص واحد، جاءت بها ابنة "أم أطريعة" من عند المنزل الذي تشتغل خادما لأهله.
كانت "أم أطريعة" رحمها الله تعالى، تصر دائما، إن كانت هناك مضغة واحدة من اللحم في وجبة الغداء تلك، أن تكون تلك المضغة من نصيبي أنا، أنا الذي تَعُدُّني من أحب أبنائها إليها.
ومن قبل ذلك، وفي طفولتي المبكرة، كنتُ أمر دائما بأم أطريعة حيث تعمل، أو بالأصح حيث تمثل دور بائعة الخضروات، فلم يكن كل ما تعرضه من تجارة يتجاوز ما تحتاجه أسرة واحدة من الخضروات والتوابل لإعداد وجبة غداء واحدة، وقد كانت مائة أوقية تكفي لشراء كل ما هو معروض على "طاولة أم طريعة".
كنتُ أمر بها في مكان عملها، كلما تقطعت بي الأسباب، وكلما كنتُ بحاجة ماسة إلى نقود، ولم يحدث أن عدتُ من عندها إلا وأنا أحمل معي "ثروة مالية" تقدر بالأوقية أو الأوقيتين.
وكانت رحمها الله تعالى كلما رأتني قادما تطلق الزغاريد، وتقول لمن معها، وبثقة لا أعرف من أين أتت بها: هذا ابني الذي سيصبح إن شاء الله وزيرا كبيرا.
كانت تستقبلني دائما بحفاوة، وبقولها بأني سأصبح وزيرا كبيرا، وكنتُ أحب دائما أن أسمع ذلك منها، ولكن هناك شيئا آخر كنت أحبه أكثر، وهو تلك الحركة التي كانت تقوم بها كلما زرتها في "محلها التجاري". وكانت تلك الحركة تبدأ بإخراج المحفظة العتيقة التي تعلقها على صدرها، ثم تقوم بعد ذلك بإخراج كل ما في المحفظة من نقود لتعطيني منه أوقية أو أوقيتين، وفي بعض الأحيان تكون تلك الأوقية أو الأوقيتين هي كل ما كان يوجد في محفظتها من نقود لحظة مروري بها.
فهل بعد كل هذا يمكن لابن "أم أطريعة" الذي تربى في أحضانها، بل وتدرب في مؤسستها الخيرية، إلا أن يحب العمل الخيري؟ وهل يمكن أن يُستغرب منه إذا ما فتح في لحظة من اللحظات محفظته فوجد فيها مليون وستمائة ألف أوقية فأخذها ووزعها بطيب خاطر على الفقراء، ليعود صفر اليدين كما كان؟
رحم الله "أم أطريعة" فقد كانت عجوزا، فقيرة، أمية، لا تستطيع أن تعد إلى العشرين، ولكنها مع ذلك كانت سيدة عظيمة، بتضحياتها، بكرمها، بعطائها، وبمؤسستها الخيرية التي لم تتوقف يوما عن العطاء.
لقد رحلت عن دنيانا الفانية سيدة عظيمة كانت بالنسبة لي أكثر من أم. رحلت من قبل أن تصدر الرئاسة مرسوما بتعيين ابنها وزيرا، بل ومن قبل أن يحصل ذلك الابن على أبسط وظيفة تمكنه من أن يعوض لها شيئا قليلا من تعبها، من شقائها، من تضحياتها الجسيمة التي كانت تبذلها عن طيب خاطر، من أجل سعادته، بل ومن أجل سعادة كل عابر سبيل يمر بعريشها.
وما زلتُ أذكر بأن الدموع قد انهمرت رغما عني، يوم علمتُ برحيلها، وذلك بالرغم من أني كنت دائما أتغلب على تلك الدموع عند موت من أحبهم وأجلهم كثيرا، كما هو الحال عند وفاة والدي رحمه الله تعالى، وكذلك عند وفاة جداتي وأجدادي وأعمامي وخالي وخالتي، رحمهم الله جميعا.
ورغم أن "أم أطريعة" رحمها الله تعالى كانت هي أستاذتي ومدربتي الأولى على العمل الخيري، إلا أنها مع ذلك لم تكن هي الوحيدة، بل كان هناك أيضا الوالد رحمه الله تعالى، والذي كان تاجرا بسيطا، وعاش جل حياته وهو فقير، ولكنه مع ذلك كان ينفق على الفقراء. وكانت هناك أيضا الوالدة أطال الله عمرها، والتي لولا أني عرفت "أم أطريعة" لقلت لكم بأنها هي أكرم من عرفتُ.
هذا بالإضافة طبعا إلى الجدة رحمها الله تعالى، والتي كانت تبيت وهي تتضور من الجوع، وذلك رغم أنه كانت تُذبح تحت خيمتها الذبائح، فتوزع اللحم على الضيوف، وتحرم نفسها، لتبيت وهي جائعة في انتظار فضلة طعام تأتيها من عند جارة.
وهناك بالإضافة إلى ذلك كله، والدة جدي رحمها الله تعالى، والتي كانت، وكما قيل لي، تحرم حفيديها الصغيرين (والدي وعمي) من تناول أي طعام، إذا لم يأتيا بمن يشاركهما في طعامهما.
ويبدو أن العمل الخيري كان صفة وراثية تحملها العائلة في جيناتها، فجدي الخامس رحمه الله تعالى، والذي لا تزال العائلة تحمل اسمه حتى الآن، كان يخرج في كل يوم من مدينة وادان التي كان يرأسها ليحتطب، أو ليقوم بأعمال عضلية أخرى، ثم يأتي بحصيلة عمله اليومي إلى الرحبة، ويترك تلك الحصيلة هناك، لينتفع بها من أراد من الوادانيين أن ينتفع بها. وقد كان رحمه الله تعالى معروفا بقوته البدنية، والتي وظفها لتمويل مؤسسته الخيرية. وقد نُسج الكثير من الأساطير حول تلك القوة، والتي من بينها تلك الأساطير المرتبطة بصخرته الضخمة التي تحمل اسمه، والتي لا تزال موجودة حتى الآن في المدينة القديمة.
وقد كان ابنه الذي ترأس على المدينة من بعده، منفقا هو كذلك، فهو الذي شيد، ومنذ قرنين تقريبا، وعلى نفقته الخاصة، المسجد الجامع في وادان، والذي لا يزال قائما حتى الآن. ويقال بأنه تمكن من تشييد ذلك المسجد بين جمعتين. وتقول الرواية الشعبية بأن الماء كان قد نفد في وادان قبيل اكتمال بناء المسجد، فما كان منه إلا أن استبدل الدهن بالماء لبلِّ التراب وجعلها طينا، وذلك لإكمال ما تبقى من المنارة، ليكتمل بذلك بناء المسجد من قبل دخول وقت الجمعة، فتصلى فيه أول جمعة، وهو مكتمل البناء.
ولم يقتصر انفاق هذا المحسن الذي أنعم الله عليه بأموال طائلة على مدينة وادان فقط، بل امتد ليصل إلى مدينة تيشيت، وإلى أمكنة أخرى، وهذا ما تثبته بعض الوثائق التي كتبها العالم الجليل صالح ولد عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
لذلك كله فلم يكن غريبا أن أفتتح مركزا خيريا عند استلام قرض الوكالة، ولم يكن غريبا كذلك أن أعتمد على نفس الأسلوب البسيط في ظاهره، المدهش في جوهره، والذي كانت تتبعه عجوزا أمية لا تستطيع أن تعد إلى العشرين في تسيير مؤسستها الخيرية.
كانت "أم أطريعة" رحمها الله تعالى تقدم لضيوفها الفقراء وعن طيب خاطر وجبة الطعام التي كانت تأتي بها ابنتها من خدمة المنازل، وذلك في الوقت الذي لم تكن تملك فيه غير تلك الوجبة. ولكنها أيضا كانت تستقبل الضيوف الأقل فقرا، وكانت تأخذ منهم ما يكفي لإعداد وجبة طعام، فتعد لهم طعاما، يأكلون منه، ويأكل منه أيضا ضيوفها الأكثر فقرا.
كانت "أم أطريعة" رحمها الله تعالى تأخذ ـ بشكل أو بآخر ـ أجرا من ضيوفها الأقل فقرا، مقابل تلك الخدمات التي كانت تقدم لهم: توفير مكان للاستراحة، التكفل بإعداد الطعام والشاي.. ولكن ذلك الأجر الذي كانت تأخذه "أم أطريعة" من أولئك كان يقتصر فقط، على أن يسمح الضيف الأقل فقرا أن يشرك في طعامه ضيفا أو ضيوفا آخرين أكثر فقرا.
وبالتأكيد فلم يكن ذلك الاتفاق معلنا، ولكن هكذا كانت تسير الأمور داخل عريش "أم أطريعة"، هكذا كانت تسير بتلقائية، وبعفوية، وبذكاء أيضا، أدى في المحصلة النهائية إلى أن ضيوف "أم أطريعة" كان بعضهم يطعم البعض الآخر، وهو ما أعطى لتلك المؤسسة الخيرية استمراريتها.
ولقد حاولتُ في المركز الخيري الذي أسسته، أن أعتمد نفس الأسلوب، فبالنسبة لي فلم تكن المليون والستمائة ألف التي لا أملك سواها، إلا كوجبة الطعام التي كانت تأتي بها ابنة "أم أطريعة" من الأسرة التي كانت تشتغل خادمة لها.
وكما كانت "أم أطريعة" تقدم وعن طيب خاطر تلك الوجبة لضيوفها الفقراء، فكان عليََ أنا أن أقدم وعن طيب خاطر أيضا المليون والستمائة ألف أوقية للمتدربين في المركز من الفقراء.
وكما كانت هي أيضا تطعم بعض الضيوف على حساب بعض الضيوف، وهو ما أعطى لمؤسستها الخيرية الاستمرار، فكان عليَّ أنا أيضا أن أبحث عن طريقة ما تمكنني من أن أُكَون وأدرب بعض زوار المركز على حساب البعض الآخر حتى أضمن الاستمرارية للمركز.
فتحتُ أبواب المركز أمام مئات الفقراء، ولكني أيضا بدأت أبحث عن وزارة أو عن مؤسسة عامة تقبل بأن تمول دورات في المركز، وذلك لأوفر من خلال دوراتها موارد مالية تمكنني من إطلاق المزيد من الدورات لصالح المزيد من الفقراء الذين لا يملكون مالا ينفقونه على التدريب والتكوين.
ولذلك فقد كتبتُ رسائل عديدة للعديد من الوزارات والإدارات، وطلبتُ من تلك الوزارات والإدارات أن يقوم المعنيون بالتكوين فيها بتنظيم زيارات مفاجئة للمركز، وأقول مفاجئة، وذلك لكي يطلعوا وبشكل مباشر على الدورات التي كان يقدمها المركز.
وبعد أن يطلع المعنيون على تلك الدورات، كنت أطلب منهم من خلال رسائل أخرى بأن يتحملوا تكاليف دورة من تلك الدورات، أو أن يقدموا على الأقل إعانة للمركز تمكنه من الاستمرار. وكان ما يهمني بالأساس، هو أن أجد جهة ما تتحمل تكاليف إيجار المقر (50.000 أوقية للشهر)، وكذلك أقساط تسديد القرض بعد أن تكتمل أشهر الإعفاء الستة، ويبدأ التسديد (قيمة القسط = 50.000أوقية للشهر)، إلى أن يكتمل تسديد القرض، فأستعيد بذلك مستندات قطعة أرضية تعود ملكيتها لصديق، كنتُ قد رهنتها مقابل الحصول على القرض المذكور.
كنتُ بالأساس أحتاج إلى جهة ما توفر لي مائة ألف أوقية شهريا، أما بقية المصاريف والنفقات فلم تكن ملحة، خاصة أني وجدتُ طاقما رائعا من المكونين والمدربين ظل أغلبهم يرفض أن يأخذ أي تعويض من المركز.
كان أول مسؤول حكومي زار ميدانيا مقر المركز في مقاطعة عرفات هو مدير الشؤون الاجتماعية بمفضوية الحماية الاجتماعية. ولقد اندهش هذا المسؤول من الدورات التي كان يقدمها المركز، خاصة منها تلك التي تحارب الفقر، من خلال التثقيف الحرفي، وقد كان برنامج التثقيف الحرفي من أهم البرامج التدريبية التي ابتدعها المركز.
وبعد تلك الزيارة تمت صياغة مسودة اتفاق بين المركز ومفوضية الحماية الاجتماعية، وبموجب تلك الاتفاقية فإن المركز كان سيتكفل بتنظيم دورات في إطار برنامج مكافحة التسول مقابل إعانات من المفوضية. كما كان من المفترض بالمركز أن يستقبل مفوض الحماية الاجتماعية في إطار تدشينات 28 نوفمبر 2007، وذلك ليشرف بنفسه على حفل تخرج دفعة من 30 رب وربة أسرة تم تكوينها في المركز على صناعة الحلويات، ولكن وفي آخر لحظة، ولسبب ما، لم يحضر المفوض، ولم يتم التوقيع على الاتفاق المذكور.
وزار المركز أيضا مدير التكوين بوكالة تشغيل الشباب، والذي اندهش أيضا من الدورات التي يقدمها المركز، فقد تصادف حضوره مع حصتين في المركز، إحداهما في صناعة الحلويات، والثانية حصة من الفرنسية تدخل في أطار دورة نظمها المركز لصالح بعض خريجي الجامعة من أصحاب الشهادات العربية. ولكن اندهاش مدير التكوين في الوكالة لم يترتب عليه عمليا أي شيء.
نظمت أيضا وزارة المرأة زيارة للمركز، وقد أوفدت هذه الوزارة المديرة المساعدة لشؤون الأسرة مصحوبة بخبير اجتماعي. وكانت وزارة المرأة هي الوزارة الوحيدة التي قدمت إعانة مباشرة للمركز تمثلت في عدد من العصارات والخلاطات تم تسليمها كجوائز للمتفوقات من ربات الأسر في دورة صناعة الحلويات. كما أن هذه الوزارة تكفلت بتوفير خيام لحفل التخرج، وقد التزمت الوزيرة بأنها ستشرف هي شخصيا على ترؤس الحفل، ولكن في اليوم المقرر للحفل غابت الوزيرة، ولم ترسل من يمثلها.
ومن قبل ذلك، ولظروف طارئة، حسب ما أُبلِغنا في المركز، فقد تغيب المستشار الإعلامي أو المستشار المكلف بالاتصال لوزيرة التعليم عن حفل تخرج 200 طالبة من المركز. وقد استفادت تلك المجموعة الكبيرة من حصص تقوية استمرت لعام دراسي. كما استفاد بعضها من دورات أخرى، منها دورة هي الأولى من نوعها في الإسعافات الأولية، ودورة تدريبية على العمل التطوعي، كانت من أهم الدورات التي قدمها المركز.
وتمت أيضا دعوة عمدة بلدية عرفات، لحضور حفل تخرج، ولكن العمدة لم يحضر. وعندما انتقل المركز إلى بلدية دار النعيم تمت دعوة عمدة دار النعيم لحضور حفل تكريم نظمه المركز هناك، ولكن عمدة دار النعيم لم يحضر هو أيضا للحفل المذكور.
وربما يكون السبب في بعض تلك التغيبات هو أني كنتُ أكتفي فقط بكتابة رسائل للجهات المعنية للتعريف بالمركز، أو لتوجيه الدعوات، ثم أبدأ في انتظار الرد دون أي اتصال مباشر.
ولم أخرج عن ذلك الأسلوب إلا عندما تعلق الأمر بعرض أنشطة المركز على رئيس الجمهورية، وقد تم عرض تلك الأنشطة بشكل مختصر جدا، وذلك لأنها كانت على هامش لقاء كان مخصصا في الأصل لعرض فرن يعمل بالطاقة الشمسية.
والحقيقة أني لم أفكر إطلاقا في لقاء الرئيس، إلا بعد أن تلقيتُ في المركز هدية من صديق عزيز، وهو موريتاني يعمل بأمريكا، وكانت تلك الهدية عبارة عن فرن يعمل بالطاقة الشمسية، وفق تكنولوجيا بسيطة، وهذا الفرن تم تصنيعه من طرف أمريكي يهمه كثيرا أن ينتشر استخدامه في العالم.
وفي بداية شهر مايو من العام 2008، حملتُ معي فرن الطاقة الشمسية إلى مدينة روصو، وذلك لكي أعرضه على الرئيس، والذي كان حينها يؤدي زيارة للمدينة. بعد وصولي إلى مدينة روصو اتجهت فورا إلى الخيام التي ستعرض فيها المنتجات الزراعية على الرئيس، وبعد وصولي للخيام بدأتُ في البحث عن مكان استراتيجي أضع فيه الفرن. وقد دلني صديق لي، وهو مهندس زراعي، على مكان للعرض، قال بأنه قد اختاره دون غيره بعد دراسة ميدانية قام بها لكل الأماكن المتاحة في ساحة العرض.
عملتُ باستشارة صديقي المهندس، ووضعت الفرن في النقطة التي حددها، ولكن ورغم ذلك فقد مر الرئيس بجوار الفرن دون أن يراه، مما يعني بأن المكان الذي حدده صديقي المهندس، لم يكن بتلك المواصفات الإستراتيجية التي كان قد تحدث عنها.
تركت مكاني الذي كنتُ أقف فيه، واتجهت صوب الرئيس الذي كان قد ابتعد عن الفرن بعدة أمتار، ثم قلت له بصوت عال بأني أريد أن أعرض عليه فكرة هامة. طلب مني الرئيس أن أعرض الفكرة على الوزير المعني، وقد فاته بأني كنت قد عرضت تلك الفكرة على حفنة من الوزراء دون أن يهتم بها أي واحد منهم.
تظاهرت بعدم سماع رد الرئيس وواصلت طريقي بين الجموع لكي أصل إليه، تدخل بعض الحراس وتعاملوا معي بشكل خشن وفظ مما تسبب في بعض الأضرار الجسدية والمعنوية التي لم تقدم الرئاسة، وحتى الآن، تعويضا عنها.
لم أكن على استعداد لإعلان الفشل مبكرا، لذلك فقد فكرت في خطة بديلة لعرض الفرن على الرئيس، واستخدمت لذلك أكثر أنماط التفكير الإبداعي تطرفا، وهو التفكير بالمقلوب: فبدلا من أن أسعى أنا لمقابلة الرئيس، فلماذا لا أجعل الرئيس يسعى هو بنفسه لمقابلتي؟!
كان هناك شريط ممتد من السجاد الأحمر تم بسطه ليسير عليه الرئيس، عندما يترك مجموعة الخيام المخصصة للعرض، ويتجه إلى مجموعة أخرى من الخيام تم ضربها لكي يلقي منها خطابه.
اتجهت إلى شريط السجاد الأحمر، واخترت منه مكانا محددا، ووضعت عليه الفرن، وذلك دون أي دراسة، ودون أي استشارة من صديقي المهندس، ثم ابتعدت قليلا عن الفرن، ووقفت أراقب الفرن في انتظار مرور الرئيس به.
كان شكل الفرن غريبا، وربما تكون غرابة شكله، هي التي جعلت الرئيس يتوقف بجواره، ليطرح على مرافقيه سؤالا من كلمتين: ما هذا؟
تبادل أفراد الوفد المرافق نظرات سريعة، وكان كل واحد منهم يريد من الآخر أن ينقذ الموقف بتقديم إجابة للرئيس.
انتظرت حتى أعاد الرئيس سؤاله للمرة الثانية، وبعد إعادة السؤال تقدمت إلى الرئيس وصافحته، ثم أخبرته بأني أنا هو صاحب الفرن، ثم قلت له : يا سيدي الرئيس إننا لسنا بخير وأقصى ما يمكننا فعله هو أن نقول لكم ذلك.
لم تعجب هذه الجملة التي افتتحت بها حديثي الوفد المرافق للرئيس، ورغم ذلك فقد واصلت حديثي وأخبرت الرئيس بأني أكتب له بانتظام رسائل مفتوحة أتمنى أن يقرأها. كما حدثته قليلا عن مركز "الخطوة الأولى" للتنمية الذاتية الخيري، والذي كان يمر في تلك الأيام بظروف في غاية الصعوبة، وبعد ذلك بدأت أتحدث عن فرن الطاقة الشمسية، وعن طريقة تشغيله، وعن بساطة التكنولوجيا المستخدمة في تصنيعه، وعن جدوائيته الاقتصادية، فتكلفة تصنيعه زهيدة، وهو يمكن أن يساعد الأسر الفقيرة في الحد من استهلاك الغاز الذي وصلت أسعاره إلى مستويات عالية جدا، كما أنه قد يساعد في التخفيف من الطلب على الفحم الذي يشكل استهلاكه خطرا كبيرا على البيئة.
علق الرئيس ببعض الكلمات المشجعة، ورغم ذلك فقد اكتفى بأن طلب من وزير التنمية الريفية المرافق له بمتابعة الموضوع.
المهم أني عدتُ من روصو صفر اليدين، إلا من وعد بلقاء مع وزير التنمية الريفية، وهو اللقاء الذي لم يتم، وذلك لأن وزير التنمية الريفية ظل يغلق باب مكتبه في وجهي، إلى أن أغلق باب المكتب في وجهه هو، ذات صبيحة أربعاء مثير، صادف السادس من أغسطس من العام 2008.
ومن قبل أن أصحو ذات صبيحة أربعاء مثير على انقلاب السادس من أغسطس، كنت من قبل ذلك قد صحوت على انقلاب آخر في مقر المركز لا يقل إثارة، على الأقل بالنسبة لي. وقد تم بموجب ذلك الانقلاب تبديل أقفال المركز، واحتجاز ما فيه من أثاث مكتبي من طرف مالك الدار، أو على الأصح، من طرف المسؤول عن إيجارها.
وقد كان من شبه المؤكد لدي، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، بأن المركز سيعيش حدثا جسيما في يوم قادم لا محالة، وذلك بعد أن تراكمت عدة أشهر من الإيجار، وبعد أن توقف أيضا تسديد أقساط قرض الوكالة.
فالمركز لم يكن يستقبل أي رسوم، ولا أي تعويض، من المستفيدين من دوراته، لذلك فلم تكن هناك موارد مالية لمواجهة الأزمة. وفيما يخصني أنا فلم أكن أملك شيئا أبيعه لإنقاذ المركز، فأنا لا أملك مترا مربعا واحدا على كل أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ولا أملك سيارة، ولا أملك حينها حتى حاسوبا شخصيا يمكن بيعه للمساعدة في تسديد الديون المتراكمة.
لم يكن لديَّ ما يمكن فعله من قبل إغلاق المركز، سوى أن أعمل على إيقاف كل الأنشطة داخل المركز، وذلك حتى لا يعيش المستفيدون من خدمات المركز، تفاصيل الحدث القادم، والذي لن يروق لهم بأي حال من الأحوال.
وقد كان آخر نشاط تم تنظيمه في المركز هو حفل اختتام دورة في التجويد استمرت لما يزيد على عام، بمعدل حصة لكل أسبوع، وهي دورة كنا قد افتتحنا بها المركز تبركا، وشاء الله أن نختتم بها أنشطة المركز.
وقد طلبت مني الأستاذة الفاضلة التي كانت تشرف على تلك الدورة، وكذلك الطالبات المستفيدات، أن أوجه باسم المركز دعوة إلى فضيلة العلامة محمد الحسن ولد الددو، وذلك لكي يلقي عليهن كلمة، ويوجه لهن نصائح عند اختتام الدورة.
كتبتُ رسالة دعوة باسم المركز، ووضعتها في ظرف، ولكني اكتشفتُ بعد أن وصلتُ إلى منزل العلامة رفقة من أوصلني إلى هناك، بأني لم أصحب معي الظرف الذي توجد به الدعوة.
لم يكن فضيلة الشيخ في منزله حينها، ولم يكن بالإمكان أن أنتظر فرصة أخرى، لذلك فقد أخذتُ ورقة من عند المحل المجاور لسكن الشيخ، وكتبت فيها بخط اليد دعوة، ثم سلمتُ الرسالة لعامل بالمنزل، ليسلمها بدوره للشيخ عند عودته للمنزل.
مرت أيام، وبدأ الوقت يضيق كثيرا، ولم أكن لأقبل بأن يعيش المستفيدات من هذه الدورة، مأساة إغلاق المركز، لذلك فقد أجبرتهن على تنظيم حفل التخرج بحضور الأستاذة فقط، وهو ما استغربته بشدة بعض الطالبات.
أُغلِق المركز، واحتُجزت ممتلكاته لما يزيد على العام، وقد تمكنتُ فيما بعد من أن أستعيد تلك الممتلكات بعد أن سددتُ جزءا من الدين. وتم فتح المركز من جديد في مقاطعة دار النعيم، لمدة عام، وذلك من قبل أن يتم إغلاقه اضطرارا للمرة الثانية، ولكنه أيضا، وهذا ما أستطيع أن أجزم به، سيعاد فتحه بعد حين.
أعدكم بذلك لثقتي بربي، ولثقتي بربي، أعدكم بأكثر من ذلك : سيفتح المركز في يوم قادم، قريب أو بعيد، فرعا في كل عاصمة من عواصم الولايات الثلاثة عشر.
أما هذه العثرات التي حدثتكم عنها، والتي مر بها المركز في خطوته الأولى، فما هي بالنسبة لي إلا بشائر على أن المركز يسير في الاتجاه الصحيح، وعلى أنه سيشكل مستقبلا مؤسسة تنموية رائدة في البلاد.
لمطالعة حلقات الجزء الأول من هذه اليوميات:

ليست هناك تعليقات :