من ذاكرة السجن!
من ذاكرة السجن!
شهادة حية عن نبض جيل رافض
جيد؛ لاداعي للاعتراف.. سنسلخ جلد وجهك؛ أخبرنا بعد فقدانك الإحساس بالألم.. قد نمكث طويلا في تطهير
رأسك الممتلئ بالحقد على البلد.. هكذا جر جسدي من غرفة مظلمة، نحو بهو "المخبر"، كما يطلق عليه جلادو إدارة أمن العقيد الطائع، منتصف تسعينيات القرن الماضي.
على بلاط البهو الرخامي، غرسوا وتدين معدنيين، يرتفعان لحد المنكبين لقامتي التي لازالت منصوبة، أمام سيل الشتائم القادم من أماكن عدة ببهو العذاب.. أقعدتني هراوة المساعد، صاحب النياشين المتآكلة؛ أطرافي على صدري.. ربط معصمي أمام ركبتي، بشريط بلاستيكي، معززا بحبل قماش قاتم اللون استله من جوف جيبه، الذي ازدحمت فيه مفاتيح اللوالب وحاوية التبغ الجلدية، وقصاصات البنزين المدفوعة، وآلة تسجيل، أخفت الأتربة المتكدسة ملامح واجهتها.. أبصرتهم آخر مرة أربعة، قبل تعصيب عيني حتى الصمم.. طفقت صور منتقاة من أدب السجون، تطوف بذاكرتي؛ مدمية إحساس روحي الإستباقي بتمشيط جسدي.. فجأة صاح البوم معلنا عن بداية جلسة "الجكوار"، إسقاطا على تدخل طائرة القتال الفرنسية الصنع، التي تفوق صولتها سرعة الضوء، أثناء حرب الصحراء ضد جبهة البوليساريو، محلقة فوق ساحة المعركة لإرعاب العدو قبل التدخل الماحق!
قريبا من البلاط، أحسست أن العمود المعدني يتجه نحوي.. لازالت التمارين سهلة ومغرية، حتى أخذ العمود مكانه، تحت الركبتين، ليوكل إلى يدي عملية تثبيته.. بدأ جسدي يتحرك على وقع عمود الشواء الغليظ، لتلحق القيود ضاغطة أكثر فأكثر، ساقي وفخذي، على العمود؛ ليتجرع جسدي وبصفة آنية آلاما فظيعة.. اقتربت من الوتدين، ليستقر أطراف القدمين في المعدات المعدنية.. فجأة تتدخل يد سادية، لتحدث حركة مائلة بجسدي.. لم يعد الألم يطاق؛ ولا حتى الوصف قادر على استحضار التفاصيل، طفقت أصرخ، وبقوة، لأواصل التنفس، بعد أن انحبس الأكسجين وأحسست بوجهي مستعدا للانفجار.. استعدت جزءا من صحوي، لأتلقف على بياض قدمي ضربات مسطرة حديدية؛ خلتها مطرقة عملاقة.. استفقت للحظة خاطفة، غليان مخي حتى أقصى زاوية بجسدي المطوي بالحديد والحبال القاطعة، معلقا ما بين السماء والأرض.. لصقت بذاكرتي أكثر من عشرين ضربة، قبل أن يستلم الإغماء جسدي راحة ومتعة بحجم الموت!
أنا
نواكشوط/ إدارة أمن الدولة، مارس 1997
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق