الأحد، 19 مايو 2013

رجال ودول ومشاريع




في 1986 كان العقيد معمر القذافي ينظر لنفسه في المرآة ويفكر في دولته الفاطمية بنسخة القرن العشرين. كان قد نسي كل آلام عملية مانتا في 1983 وخلص إلى أن الطريق إلى التشاد قد انفرش له بالورود. وفي العاشر من فبراير 1986 هاجم...


ثوار تشاد، مدججين بالسلاح الليبي ويقودهم مئات الضباط من "الفيلق الإسلامي"، الذي أسسه العقيد الليبي من المقاتلين الطوارق الأشداء وأرسل عناصر منه للهجوم على العاصمة التشادية من أجل السيطرة عليها. كان القذافي شابا وكانت توسعيته أكثر شبابا.
لا تعيش التشاد حاليا في النعيم. ولكنها دولة موجودة على الأقل. ومتوحدة. قبل عملية أبرفيير كانت التشاد منقسمة بما يسمى بالخط الأحمر حيث في الشمال تعيش ميليشيات القذافي وغوكوني أوداي وبعض المحاربين الجهاديين الذين استدعاهم القذافي واكتتبهم واستغلهم من أزواد ومن الجهادية العالمية. لقد أعطت أبرفيير سنوات أخرى للدولة التشادية. ويمكننا دوما تعداد أخطاء ميتران ولكن وصفه بالاستعماري هو مبالغة لا يقدر عليها حتى عصام العريان.
1-رجال
1-إياد أغ غالي وصحابته
كان من بين المقاتلين "المجاهدين" الذين استقدمهم القذافي إلى التشاد شاب أزوادي في الثلاثين من العمر وكان يمكن رؤية الغيمة على رأسه: كان سيكون له شأن. كان منتسبا لبيت شريفي من إيفوغاس كيدال وقد حاز على لقب محلي: أسد الصحراء. كان  اسمه إياد أغ غالي. من المهم الانتباه لهذا الرجل لفهم ما يحدث اليوم في الصحراء الكبيرة. كان إياد غالي تجربة ملحمية جمعت الشرق بالصحراء وكان أستاذا في الميكيافيلية وتغيير المواقف والتلون. وقد أفسد بشكل مريع أحلام الشعب الأزوادي بمغامراته وانتفاعياته. في الثمانينيات تماما كما الآن نعمَ أغ غالي-وهو ما زال طور التكون والاحتراف في التشاد- بلقب المجاهد من رومانسيي العالم الإسلامي الحالمين بعودة خالد بن الوليد. غير أن "المجاهد" لم يكن مجاهدا إلا بالقدر الذي كانه به القذافي. فقد كان شارب ويسكي متمرس وصاحب ذوق موسيقى رفيع ورجل "حياة عليا".  بعد أن أرسله القذافي إلى لبنان التي ناوش بها الأصولية المسيحية بحزب الكتائب اللبنانية –وزعم لاحقا فيها أنه قاتل إسرائيل- عاد إياد غالي إلى إقليم أزواد في بداية التسعينيات حيث كان الشعب الطارقي يقاتل من أجل استقلاله، والتحق- كعادته لاحقا- بثورة ما أشعلها ولكنه أصبح صاحب شأن بها. وقاد الهجوم الكبير في مانكا (يونيو 1990) وبعد تحقيقات انتصارات ميدانية تسمح له بتحقيق قيمة أرضية فإن إياد غالي باع نضال الطوارق وقايض مع الحكومة المالية مناصب ديبلوماسية وإدارية له ولصحبه. وخان الثورة. كالعادة.
لقد رأى حالمو الصحراء في إياد غالي مثاليا باع المناصب من أجل الجهاد. ولكن غالي شوهد دالفا السفارة الأميركية في باماكو في  مايو 2007 حيث نقلت وثائق ويكيليكس تفاصيل محادثته مع السفير الأميركي التي جاءه يعرض فيها عليه أن يساعد أميركا في القضاء على الجهاديين من القاعدة في شمال مالي. لقد تم تقديمه ثوريا. ولكن الحقيقة أنه كان يتعاون مع الأميركان ومع الحكومة المالية ضد ثوار الطوارق وضد أغ باهانغا، الذي كان يعمل على الثورة منذ 2007.
في 2008 تشير المصادر الأميركية إلى إياد أغ غالي الذي أصبح قنصلا لأمادو توماني تورى في جدة باعتباره سمسارا في إطلاق الرهائن الغربيين ومتمرسا في الحصول على نسب مالية لقاء تدخلاته. وقد جعل منه هذا مليونيرا في وقت قياسي. ثم عاد إلى مالي ليستثمر في هذه التجارة (التي استمرت طوال الفترة 2003-2009). وسرعان ما فقد ثقته بين الطوارق بحث أنه لم يجد مناصرين في انتخابات زعامة كل إيفوراس، المعروفة بأمنوكال، واندحر في الانتخابات التقليدية. وعندئذ قام ببيعة عقبة مع وفد دعوي من جماعة الدعوة والتبليغ واشترى لحية ونبذ الموسيقى ثم أسس تنظيما قتاليا. ولكن العادات القديمة لا تموت أبدا. ومن المحتمل جدا أن إياد غالي باع إخوانه الجدد في السلاح لفرنسا.
1-2-آخرون
لم يعد إياد أغ غالي إلى تجارة بلا منافسين. فقد كانت الصحراء مليئة بالمستثمرين في تجارة الأمن. لقد ظل طريق القوافل التاريخي مستمرا دون انقطاع فبدل الإبل أصبحت سيارات تويوتا ونيسان تمخر كثبان الصحراء. أما في محل بضائع العلك والذهب والقماش الغيني فقد جاءت بضائع تتناسب مع الرأسمالية المتأخرة: السجائر والمخدرات. ومكان العبيد أصبح يوجد الرهائن الغربيون.
لا نعرف تحديدا كم ربح مجاهدو الصحراء من بيع المخدرات والسجائر. ولكنهم جنوا في سنوات وجيزة 250 مليون دولار من الاختطافات. وقبل العملية الفرنسية في 2013 كانوا يمتلكون من الرهائن ما يعادل قيمة 132 مليون دولار. هذا طبعا هذا عدا أموال أنظمة الحماية والضرائب وتهريب السجائر. وكان رجل الصحراء، المختار بلمختار يعرف بالسيد مالبورو. وهذا الرجل مثير للانتباه فهو أسس كتيبة تضم كثيرا من الموريتانيين والجزائريين. ولكنه- أكثر من هذا- مؤشر على الدور القطري. وقد نفر إلى غاو مالي في 2012 حيث اتخذ بها عدة منازل أحدها منزل سابق للصليب الأحمر والآخر فيلا في غاو ملأها بالقنابل اليدوية والسلاح واتخذ بها زوجة مالية، وكان يقضي وقته في الأسفار وفي الانترنت التي كان يحرص على أن يدخلها بشكل آمن.
في أعقاب بلعور كان هنالك جزائرون عدة أمثال أبو الهمام وأبوزيد. غير أن القوة الصاعدة كانت من الموريتانيين الذين تطوروا بسرعة وتقلبوا في المناصب فقد أسس حمادة ولد محمد خيرو تنظيم "جماعة الوحدة والجهاد" وأصبح عبد الله الشنقيطي (محمد الأمين ولد الحسن ولد الحضرامي) أميرا لكتيبة الفرقان. وقد أصبح وجود الموريتانيين بارزا لأي متابع للوضع خصوصا مع تزايد معدلات البطالة في دولتهم .
لقد سمحت هذه الخصوبة للمال التهريبي ولتجارة المخدرات أن يصبح شمال مالي مقصدا لصعاليك الصحراء فأصبحت توجد بها كتائب أبو الليث الليبي والموقعون بالدم والملثمون والزرقاوي. ولم يكن هؤلاء دوما مجاهدون بل كانوا مجموعة من الحشاشين والمدخنين الذين أتوا بحثا عن الكسب بفوهة الكلاشنيكوف (وكانوا يحششون في منزل بلعور في غاو، رغم أنهم كانوا يحرمون الحشيش والسيجار على السكان). وكان يُسخر من أبي زيد الجزائري بأنه "طالباني بالنهار، ومهرب بالليل". 2-دول:
2-1-قطر لم يغفر أمير قطر للقذافي لأنه سخر منه ذات مرة في قمة عربية. وقد بذل الأمير المال والعتاد والإعلام ومول الناتو في سبيل إسقاط ملك ملوك إفريقيا. وفي سبيل الحرب قام أمير قطر بتأجير شيخ مالبورو المختار بلمختار (بلعور) ليحارب القذافي. وببعض الدعم من الأصولية العالمية تم إطلاق الجهاد ضد القذافي وإهدار دمه ونحره. كانت علاقة أمير قطر مع المختار بلمختار هي علاقات خدمية متعددة. فبالاضافة الى انه قاتل في معركة الانتقام القطري ضد القذافي فقد أجرته العائلة الحاكمة ليحرس إقامة العائلة القطرية في الجزائر.
لقد وجدت قطر بحوزتها فائض قيمة من القوة العسكرية بعد مقتل القذافي. ورغم أن الجهاديين لم يأخذوا إذنها في السيطرة على شمال مالي إلا أن أمير قطر سرعان ما تحالف معهم، مدفوعا بنوع من جنون العظمة كأنه "سيد العلم" في رواية جول فيرن الشهيرة. أماالفرنسيون الذين دخلوا مالي فقد وجدوا معلومات كثيرة تؤكد التورط القطري في دعم المتشددين المقاتلين في شمال مالي عن طريق غسيل أموال من خلال تمويل خيري. وعلى العموم فإن المؤسسات الخيرية القطرية هي المؤسسات الوحيدة التي سمح لها الجهاديون بدخول شمال مالي. كما أن القوى السياسية الحزبية الإقليمية (في موريتانيا تحديدا) المتحالفة مع قطر هي القوى الوحيدة المعتبرة في المنطقة التي ترفض التدخل الدولي لطرد القاعدة وجماعاتها، مصرة على خرافة "الحل السلمي" وكأن المختار بلمختار وأبو زيد وحمادة ولد محمد خيرو هم مواطنون ماليون يريدون مطالب وطنية تنموية وليسوا حركات جهادية قروسطية تقوم على مبدأ الغلبة والولاء والبراء.
2-2-دولة أمادو توماني تورى
لقد تم استقدام القاعدة إلى شمال مالي في 2002. ولقد تم استقدامها أساسا من قبل الرئيس المالي أمادو توماني توري. وكانت فكرة هذا الرجل، الجنرال السابق، هو أن يجب استخدام وحدويتها الإسلامية لضرب نزعات الاستقلال عند الشعب الأزوادي والمحافظة على وحدة مالي. وسرعان ما ولدت مصالح مرتبطة بهذا التحالف. ففي ربوع الصحراء، وخصوصا عندما استدعى القذافي مقاتلي الطوارق، وجدت القاعدة ربعا خاليا وبدأت بتحقيق مكاسب باختطافات الرهائن الغربيين. وفي بداياتها خاضت مجهودا شاقا لغنم الأسلحة والمال، فقد قام شيخ مالبورو بالهجوم على ثكنة موريتانية في 2005 في لمغيطي حيث غنم معدات الجيش الموريتاني وأحرَّ به القتل. وفي 2009 استغلت خلية أخرى انشغال عسكر موريتانيا بانقلاب عسكري فهاجمت شمال البلاد بتورين وأكلت ما به المعدات ومثلت بجنوده.
غير أن سواد القاعدة الأعظم كان قد حقق ثراءً باختطافات الغربيين وتهريب المخدرات والسجائر ولم تعد معارك الصعاليك والكسب برائحة البارود وساحات الوغى عملا شريفا إلا لصعاليك القاعدة وخلاياها الصغار. كان نبلاء القاعدة ولورداتها الكبار يشترون المختطفين من موريتانيا من عند صغار الصعاليك ليفادوهم في مالي. تأويل خارجي لـ"وإِنْ يَاتُوكُمْ أًسَارىَ تُفًادُوهُمْ".
لقد كان واضحا للرئيس النيجيري أن أمادو توماني توري كان يعقد صفقة مع القاعدة وكان يسمح لمقاتليها بدخول المدن الطوارقية والتجول والتعسكر بها والزواج والتسري بها بكل حرية. وعندما حاول بعض الضباط، كما كان حال العقيد الطارقي أغ حبيب الصالة، لفت الانتباه إلى ذلك فإنه تم زجرهم. وتشير وثائق ويكيليكس إلى استفادة المقربين من أمادو توماني توري من صفقات اختطاف الرهائن.
3-3-دولة أزواد
إن الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تأسست في 2011 وأعلنت عن مولدها في 2012هي وريثة النضال الأزوادي الذي اشتعل منذ 1916 وعرفه العالم من خلال خمس ثورات كبيرة. وهي حركة وطنية لكل الشعب الأزوادي بسونغاييه وفلانه وعربه وطوارقه. وإضافة إلى طموحاتها القُطرية فإن عدة أسباب جعلتها تقوم بالاستقلال، أولها فشل الحكومة المالية بتعهداتها في قضية المصالحة، وثانيها تهديدات الحكومة وعنصريتها تجاه الشمال. ولكن مشروعها الوطني كان يعاني من عدة مشاكل هيكلية فباستثناء دعم من طوارق النيجر وعوائد من المال الليبي ودعم موريتاني ضعيف فإنها كانت بلا سند إقليمي أو دولي عكس الجهادية التي تحظى بالمال النفطي والقطري. وقد نجح تفكير أمادو توماني توري عندما تصدت أصولية الصحراء لمشروع دولة أزواد وأجهضته، مطلقة مكانه دولة الشريعة والمخدرات والإرهاب. لقد تراجعت الحركة الأزوادية عن مشروع الاستقلال لأنه مشروع لم ينضج بعد (لا يشكل العرب والطوارق إلا مليونا من 15 مليونا ماليا، كما أن غلبتهم السكانية في الشمال هي أمر تاريخي). غير أن حقها السيادي بحكم ذاتي يبقى مطلبا أخلاقيا وسياسيا مشروعا.
4-دولة الجنرال عزيز
لم يخرج الجنرال عزيز سليم الريش من المعركة السياسية الضارية غداة انقلابه الكاريكاتوري في 2008، فقد اضطر لبيع روحه للشيطان. ومقابل سكوت الاتحاد الأوروبي عن تزويره للانتخابات وتعطيله لبقية الانتخابات إضافة إلى سجله الحقوقي والبيئي السيئ فإنه أعطاهم دفاتر الدولة وأمنها. لقد أصبح ابن البنك والنقد الدوليين. وسرعان ما استخدماه في سياسات فتح الأسواق ونبذ التشغيل أو دعم المواد الأساسية. وسرعان ما تزايدت البطالة بنسب هائلة مسببة حراكا اجتماعيا كبيرا في 2011 و2012. ورغم أن الجنرال عزيز زاد المديونية بقرابة مليار ونصف إلا أنه لم يستخدم أموال السلف التي أرهق بها الأجيال في أي إنفاق عام أو تشغيل أو اقتصاد اجتماعي. بل وإن مشاريع الإسكان ومكافحة أضرار المجاعة جاءت كلها من التمويل الإنمائي للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وفي سياقات إنسانية محضة (وإن لم يمنع هذا الجنرال عزيز من التبجح بها سياسيا تماما كما يتبجح بمحاربة الفساد رغم أن الشفافية الدولية والأمم المتحدة تتحدثان عن فساد ذريع في عهده، وهنالك مؤشرات أن حجم الفساد في عهد وصل إلى 60 مليار أوقية)
كان على الجنرال عزيز دفع ثمن لدعم أوروبا. أصبحت الشركات المنجمية تذهب بنسبة تفوق التسعين بالمائة من ثروة موريتانيا المنجمية التي احتكر الجنرال عزيز تسييرها بشكل مشبوه. وترك الجنرال عزيز الحوامات الإسبانية تفرض سياستها على المجال الموريتاني لتراقب طوابير المهاجرين السريين وتقمعهم عند حدهم. بل إن المغرب أصبحت تستفيد من الضغط الأوروبي في رمي المهاجرين السريين إلى دولة الجنرال عزيز. أما فيما يخص فرنسا فقد عمل لها الجنرال عزيز دور الملك الغساني المرابط على الثغور لصد البرابرة. ورغم أن هذا الرجل لم يحرك ساكنا عندما سحقت ميليشيا القاعدة كتيبة موريتانية في تورين في نفمبر 2009 إلا أنه سارع لمساعدة الكوماندوز الفرنسي للقيام بعمليات خارج الأراضي الموريتانية في أغسطس 2010. ومن يومها بدأت حرب بالوكالة يخوضها الرئيس الموريتاني نيابة عن الرئيس الفرنسي ساركوزي. لسوء الحظ انهزم الجنرال عزيز في الحرب عندما أوقعت القاعدة الجيش الموريتاني في كمين في حاسي سيدي في يوليو2011. وفشلت الجهود الاستخباراتية لاختراق القاعدة. وفي كل مرة قتل العملاء الموريتانيون أو بالكاد نجوا بجلدهم. ورغم أن وزير نفط الجنرال عزيز يزور الحقائق بالقول إن موريتانيا لم تتعرض لأي هجوم إرهابي منذ 2009 إلا أن الحقيقة أنها تعرضت لهجمات متتالية في 2010 و2011 في عدل بكرو والنعمة وباسكنو. وفي النهاية لجأ الجنرال عزيز، الذي كان يقول أنه لا يتفاوض مع القاعدة إلى المفاوضة مع القاعدة وتبادل الرهائن معها وابتلاع لسانه والوقوف عند حده.
4-مشاريع
4-1-فرنسا  ذات الوجهين (ساركوزي ضد هولاند)
1-ساركوزي
لقد ظهرت فرنسا في المنطقة بوجهين. ورغم أن السياسات الخارجية الأوروبية لا تتضرر كثيرا بالتغيرات الأيديولوجية الداخلية إلا أن مشروعي نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند ينتميان لإطارين مختلفين. لقد استخدمت فرنسا ساركوزي بكل قيمها "الفرانس-إفريقية" نظام ولد عبد العزيز في حرب بالوكالة. ولقد كان الهدف واضحا لساركوزي. فلقد استعدى أمادو توماني توري بدولته القاعدية في الشمال المصالح الغربية التي أصبحت تدفع للقاعدة أكثر مما تدفعه في المساعدات الإنسانية لأي دولة أخرى من الدويلات الأمنية التي تحمي أظهر أوروبا من موريتانيا إلى أريتريا. وهكذا أصبحت كلفة الفدايا للقاعدة أكبر من كلفة الإنفاق على لجم القاعدة. وإضافة إلى هذا فإن تجارة المخدرات أصبحت تتغلغل بسلاسة إلى أوروبا قادمة من مالي. وكان مشروع ساركوزي مشروعا استيراتيجيا فقد ظن أنه يمكن أن يشغل الفراغ المالي من خلال ولد عبد العزيز. وعندما فشل الجنرال عزيز أمام القاعدة، وظلت مسيطرة على شمال مالي فإن ساركوزي وعزيز نسقا لشغل شمال مالي بحركة تحررية انفصالية. ومن هنا جاء دعم "الحركة الوطنية لتحرير أزواد".
وكان هذا المشروع في حد ذاته لا يخلو من قيمة أخلاقية لأن الحركة الوطنية هي حركة ذات مطالب قومية تاريخية، وهي حتما ليست عميلة لفرنسا ولا موريتانيا، بل هي حركة مطالب سيادية تاريخية. وسرعان ما أعلنت الحركة الوطنية استقلالها بتاريخ 8 ابريل 2012. ولكن المشروع سرعان ما انتهى إلى كارثة فمن ناحية قفز الجهاديون الإسلاميون من حلفاء أمادو توماني تورى وأمير قطر وملئوا الفراغ وأقصوا الحركة الشرعية وأطلقوا برنامجا قروسطيا وارتكبوا مجازر رهيبة عندما قتلوا العشرات صبرا وأدى هذا إلى هروب نصف مليون شخص من الشمال المالي. أما الكارثة الثانية فهي ردات الفعل في داخل مالي التي أدت إلى أكثر انقلاب غباء من قبل النقيب سانوغو، الذي أسقط الرئيس المنتخب قبل شهر من انتهاء ولايته.
2-هولاند:
ينتمي مشروع فرانسوا هولاند إلى إطار مختلف.  بل ومضاد. فلقد فاقمت دولة شمال مالي بعصاباتها السلفية من المخاطر الأمنية. وسرعان ما تحول رجال أمادو توماني توري الزرق المختفين إلى قوة بارزة بادية للعيان. وبقدر ما زاد خطرهم على الأمن الإقليمي بقدر ما زاد خطرهم على الدولة المالية. ورغم أنهم أقصوا الحركة الوطنية لتحرير أزواد ورفضوا مشروع الاستقلال جملة وتفصيلا إلا أنهم فككوا النسيج الاجتماعي ففرضوا مشروعا أصوليا تعريبيا وفرضوا بحد السيف لبسا وقانونا غريبا على المنطقة. ولم يأت صيف 2012 إلا وكان عموم الدولة المالية تحت رحمتهم. وكان يمكنهم بسهولة العبور إلى الجنوب حيث يعطون مددا للجهادية الإفريقية من حركات  جماعة السنة للدعوة والقتال المعروفة بـ"بوكو حرام" في نيجيريا وحركات محلية في الوسط الإفريقي كجماعات "أنصارنا" و"القاعدة الافريقية" إلى كتائب القاعدة في القرن الافريقي كـ"الفرقان"و "كتائب راس كامبوني". كان هذا مشروعا وحدويا إسلاميا وقد بدأ من معركة كونا في يناير 2013. وعندئذ ارتدى فرانسوا هولاند طاقية فرانسو ميتران.
كان مشروع هولاند هو مشروع جيوسياسي مضاد لمشروع ساركوزي. لقد أراد ساركوزي اكتراء دول صغيرة تملؤ فراغات الصحراء. أما هولاند فقد رأى أن هذه الفراغات لا تُشغلُ إلا بالدول الكلاسيكية وتقويتها عسكريا بالأمم المتحدة أو الاتحاد الافريقي. ورغم أن البعد الأمني فيه واضح إلا أنه يأتي في إطار سياسة خفض عسكري فرنسي فما تنفقه فرنسا في حرب مالي هو نصف إنفاقها في أفغانستان التي انسحبت منها. وفوق كل هذا فإن عمليتها في مالي لا تستغرق أكثر من شهرين. وبالإضافة إلى أنها تختلف عن مشاريع القذافي وساركوزي/عزيز وأمير قطر في أنها ترفض شغر الشمال المالي بما لا ينتمي للدولة المالية.
4-كيف نفهم الحرب في مالي؟
لقد أسالت العملية العسكرية في مالي كثيرا من الحبر. وقد لجأ اليسار الراديكالي إلى إسقاط كسول لامبريالية القرن التاسع عشر على الوضع، معتبرا أن فرنسا تقوم بحرب امبريالية. أما الأصولية الإسلامية، وتحديدا في الصحراء العربية: موريتانيا والحجاز، فقد اعتبرت أن الأمر يتعلق بحرب صليبية أو بغزو فرنسي.
4-1-حرب استعمارية؟
ولم يكن اليسار الراديكالي دوما كسولا في إسقاط سرديات كبيرة على صراع من نوع خاص. بل في أحيان كثيرة تم الحديث عن قصة فرنسية ما بعد كولونيالية تتعلق ببحث فرنسا عن الثروات الباطنية في الصحراء لصالح شركاتها النفطية أو أنها تتعلق بقصص "فرنسا-إفريقيا" حيث تصوغ لوبيات المصالح الفرنسية علاقة فرنسا السيدة مع إفريقيا التابعة. غير أن أهم الباحثين في موضوع "فرنسا-إفريقيا"، ستيفين سميث، الباحث القدير الذي كشف لنا منذ سنوات تفاصيل علاقات فرنسا إفريقيا في غرب إفريقيا وعلاقات روبرت بورجي بالقوى السياسية الإفريقية، يفند في بحثه الأخير، "بحثا عن وحوش" على اللندن ريفيو أوف بوكس إمكانية أي سيناريو للقصة في مالي لعدة أسباب: 1-لا يوجد رجل قوي في مالي يقدم خدمات مالية لقوى سياسية فرنسية. لقد انتهى آخر رجل مالي كبير منذ سقوط موسى تراورى. 2-فرنسيو مالي، وهم ستة آلاف نسمة، ليسوا قوة اقتصادية بل هم في الغالب ماليون حصلوا على الجنسية الفرنسية، وليس العكس: ليسوا فرنسيين وجدوا مصالح في مالي فبقوا بها. 3-الخيرات المالية وهي غالبا القطن والذهب ليست في أيدي فرنسا من أصلها كما أن الميزانية المالية التي يأتي نصفها من أوروبا لا تعادل ميزانية أصغر مدينة فرنسية. 4-لقد ظلت مالي دوما مستقلة ديبلوماسيا عن أي سياسة فرنسية (الدليل هو عداء ساركوزي مع أمادو توماني تورى).
وهذا لا يعني أن فرنسا ملك نازل من السماء فسميث يشير إلى أن الرئيس الفرنسي يستعيد شعبيته المتدنية جدا في الاستطلاع بحرب مالي. إذن فهي قضية سياسية. أكثر من هذا يجب أن لا نخرج التورط الفرنسي من سيناريوهات تورط النظام الدولي الجديد في الخط الساحلي العريض. وهو تورط مدفوع أساسا بالأمن الاستيراتيجي الغربي. ولكن هذا لا يمنع أيضا أن فيه التزاما بالوحدة الترابية للدول. لقد تدخلت بريطانيا في الحرب الأهلية في سيراليون وأنهتها بهزيمة كتائب فوداي سنكوح وإعادة الوحدة إلى سيراليون. وكان سيكون غباء وصف توني بلير بالاستعماري لسيراليون مع أنه كان استعماريا في العراق بشكل لا مراء فيه. إن ما يحدث في مالي هو الحلقة الثانية من مسلسل تورط النظام العالمي في دول المحيط في فترة "الربيع العربي" فمن ناحية أدت التغيرات البيئية على هجرات من الشمال إلى الجنوب ومن ناحية أخرى هرب السلاح القطري الغربي من ليبيا إلى بلاد الطوارق حيث تفرق الأحلاف ودخل حلفاء الأمس من فرنسا وقطر في معارك ما بعد القذافي. لقد كانت الأصولية دوما منتجا هامشيا من منتجات الرأسمالية. إنها فرانكشتاين الذي خلقته الرأسمالية واضطرت للتصدي له.
4-2-نقاش موريتاني
لقد أجمعت القوى السياسية الموريتانية (باستثناء اتجاه فيما عرف بمعارضة المعاهدة) على معارضة أي تورط موريتاني في حرب مالي، وذلك لأسباب سياسية مختلفة، ولكن من الأرجح أنها تدخل في باب مبدأ "الحياد الإيجابي" الذي رسم الموقف الأخلاقي للسياسيين الموريتانيين. أما الحزب الحاكم فهو بلا رأي في الأمر لأنه يعرف أن رأيه مرتبط بإرادة فرنسا أو مزاج حاكم ديكتاتوري، لذا فهو يصمت. غير أن أحزابا موريتانية معينة قدمت اهتماما من نوع خاص. إن حزب حاتم مثلا هو حزب ذو نزعة أصولية غير أنه إضافة إلى ذلك حزب يعتقد أنه يمثل مصالح الولايات الشرقية.  وبما أن هذه الولايات تعاني من مشكلة اللاجئين وانقطاع تجارتها مع مالي، إضافة إلى تعرضها مؤخرا لمحنة عندما قامت عصابة من الجيش المالي بقتل بعض الدعاة الموريتايين الأبرياء فإن حزب حاتم هرع إلى الحديث عن الحرب الصليبية. وهو الحزب الوحيد، عدا أئمة السلفية، الذي تجرأ وأطلق حكما قروسطيا كهذا. وبالنسبة للسلفية الموريتانية فإن الأمر يتعلق بفرصة للجهاد ضد الصليبي فرانسوا هولاند الذي تعتقد أنه أتى لنشر المسيحية في مالي. ولكي تقوم هذه السلفية بهذا الموقف فإنها اضطرت إلى تلفيق الدعم المعنوي. ولقد صارت بهذا أضحوكة. لذا قامت المجموعات الأصولية المتشعبة بتقديم مواقف أخرى. فمن جهة خرج الفقيه محمد الحسن ولد الددو (الذي سبق له أن طالب بالثأر من الجيش المالي) بنظرية نيهيلية قال فيها أن الغرب لا يريد مصالح في مالي ولا يخوض حربا صليبية بل إنها الغطرسة وحب قتل المسلمين مستدلا بسوريا (التي- كما نعرف جميعا- فإنه هو وفرنسا يتبنيان فيها موقفا سياسيا واحد، بعكس مالي التي يفرقهم فيها الموقف القطري).
أما حزب تواصل فقد ظهر كأكثر حزب اهتماما بالحرب في مالي وقد خصص لها بيانا ومحاضرة وندوة. وقدم موقفا مفصلا، يصفه ناشطوه بأنه الأكثر توازنا. وبغض النظر عن قيمة التوازن في ميدان الحقيقة (فالتوازن موقف سياسي ولا علاقة له بالحقيقة) وبغض النظر عن حقيقة توازن الموقف (وهو ليس حتما متوازنا لأنه وضع الحزب في موقف يعادي سيادة الدولة المالية ووحدتها الترابية) فهو وضع الحزب في وضعية غير مريحة إذ ظهر إقليميا معاديا لدولة صحراوية في الشمال ومعاديا لدولة مالية في الجنوب وهو ما فتح عليه بابا من المواجهة مع الرأي العام المتفرنس؛ كما أنه برسمه ثنائية بين غزاة (الفرنسيين) و غلاة (السلفيين) يفشل في الإشارة إلى أن السلفيين هم أيضا غزاة. وهم غزاة أكثر من فرنسا لأنهم يقدمون ادعاء بملكية أرض لا علاقة لهم بها أما فرنسا فهي ذاهبة في مدة شهر. لقد تحرج حزب "تواصل" كثيرا من وصفه بأنه يتضامن مع المقاتلين السلفيين. ولكن الحقيقة أنه بوصفه المقاتلين الإرهابيين بأنهم مجرد غلاة فهو إنما يقدم موقفا متعاطفا فالغلو هو موقف فكري (وبالتالي فهو مشروع) أما الإرهاب فهو استخدام العنف لفرض ذلك الموقف المتطرف (وبالتالي فإنه غير مشروع)، كما أنه يفشل- وهو يرسم معركة الغلاة ضد الغزاة- في فهم أن "الغزاة" قادمون باستدعاء دولة ذات سيادة (اللهم إلا إذا نسي ذلك)، أما "الغلاة" فهم يحاربون هذه الدولة. وإضافة إلى هذا فإن كل التحليل الذي قدمه الحزب الإسلامي عن تورط فرنسي-قاعدي لإشعال حرب هو موقف مبني بعقلية مؤامراتية وغير موثق كالعادة وهو يريد إعطاء موقف سياسي لقوى لا تمتلك أي حق سياسي في مالي.
لقد انتهت الحرب في مالي وإن كان هذا لا يعني انتهاء المواجهات والقلاقل. إن جميع القوى السياسية الشرعية المالية من أنصار الدين إلى الحركة الوطنية في أزواد تعترف بشرعية محاربة الإرهاب في شمال مالي، بل قدمت فيه مساعداتها. وصحيح أن قوى سياسية من خارج مالي ترى أنه لا شرعية لمحاربة الإرهاب غير أن هذا الأمر يحسم في السياسة المالية وليس بالقوة الناعمة القطرية (الإعلام القطري وقواها اسياسية الاقليمية).
وطالما أن هذه العملية لم تعد تتعلق بأي معركة مع قوى مالية شرعية وطالما أنها تتمتع باتفاق إقليمي (الأحزاب الإسلامية في المغرب وتونس دعمتها، وفتح الحزب الحاكم المغربي أجواءه لها) ومحلي (القوى الأزوادية الشرعية هي من ضرب القاعدة وشركائها) وطالما هي لا تُواجه بمقاومة شعبية مالية (ليست مقاومة القاعدة مقاومة وطنية أو شرعية) وطالما هي تعترف بحق حكم لا مركزي أو ذاتي لأزواد ، وطالما هي لا تتعلق بسرقة ثروات مالي (التي لم توجد بعد) وطالما هي عملية مؤقتة فإنها ستحافظ على دعم القوى السياسية المالية لها (أما القوى الموريتانية فليس رأيها مهما أصلا إلا في إطار سياساتها الداخلية أو ارتباطاتها الجيوسياسية).
إن ما يجب على القوى السياسية الموريتانية أن تحرص على فعله هو الاستمرار في الضغط على النظام الموريتاني بلجم نفسه عن التورط في حرب قد تخسر فيها موريتانيا روحا واحدة. وهذا مهم خصوصا أن المؤشرات تشير إلى أن تدخل النظام الموريتاني في الحرب هو رهن بمدى تطورها ورهن بإرادة فرنسا فلقد كان من الواضح أن فرنسا قادرة على جر موريتانيا إلى الحرب عندما تريد ذلك. ولم يتوقف استدعاء فرنسا للنظام الموريتاني إلا عندما تبين أنها قادرة على حسم المعركة بالمروحيات ولا تحتاج لإقحام الجنرال عزيز. أما الشيئ الثاني الذي على القوى السياسية فعله هو أن "توازن" بين إدانة المذابح التي يقوم بها الجيش المالي (ويتحمل الجيش الفرنسي مسؤولية لجمها) وبين تلك التي تقوم بها الجماعات السلفية، فقد ظلت القوى السياسية الموريتانية صامتة عن تشريد نصف مليون مالي بفعل عنف القاعدة وشركائها ثم سارعت إلى النواح عندما تم تشريد 60 ألف أزوادي. وكانت التهمة العنصرية هنا واضحة. وقد صمتت عن ذبح القاعدة لقرابة مائة مالي أعزل إضافة إلى جرائمها الحربية الموثقة ثم بكت عندما تم قتل أقل من عشرة أشخاص في مالي. كما صمتت عن التعريب القسري وجرائم تطبيق الحدود في مالي وجعلت ضجة كبرى من مطاردات أهلية لتجار (بعضهم كان متورطا في التخابر للقاعدة بهواتف الثريا).
إن بالجيش المالي عناصر إرهابية وقد قام بمجازر منذ منتصف التسعينيات. غير أن الموقف الحقوقي هو الموقف الإنساني الذي يدين جميع أعمال العنف وليس الموقف القبائلي الذي يدين فقط ما يحدث من الجرائم لعنصره أو أحلافه. وأيضا على موريتانيا أن تتحمل 
مسؤولية أخلاقية في الارتقاء بأوضاع اللاجئين في جنوب مالي.
ولكن الأمور لم تمض بالتوفيق. قبل 27 عاما من عملية القط البري بدأ رئيس اشتراكي فرنسي آخر "عملية أبرفيير" لإنقاذ الوحدة الترابية لبلد آخر في الساحل الإفريقي. بتاريخ 16 فبراير هاجم الطيران الفرنسي بطائرات الجاغوار قاعدة "واي دوم" الجوية ودمر إمكانية أي عمل ليبي جوي ضد انجامينا.  وفي 18 فبراير استعاد مائتا عنصر من الكوماندوز الفرنسي بلدة ديبي. البقية تاريخ. فقد جهز الفرنسيون الهجوم البري التشادي وتمكنوا من كسر قوة الدبابات الليبية بصواريخ ميلان. وبتاريخ 16 مارس 1987 كان أكثر من 1200 مقاتل ليبي قد قتلوا في تشاد. وانهزم القذافي. ووقع صاغرا بتاريخ الحادي عشر من سبتمبر اتفاقا بوقف إطلاق النار والانسحاب



نقلا عن موقع تقدمي

ليست هناك تعليقات :